الجمعة، 18 يناير 2013

: ناصر والفريق عبد المنعم رياض ... الجزء الثاني


ثلاث حكايات شخصية عن زعيم الأمة العربية
في ذكرى ميلاد جمال عبد الناصر : ناصر وعبد المنعم رياض " الجزء الثاني "


( في حوالي الساعة العاشرة صباحا من يوم العاشر من مارس عام 1969 ،كنت واحدا من نحو مليون مواطن مصري في ميدان التحرير بوسط القاهرة باتوا ليلتهم الماضية على فجيعة موت الفريق " عبد المنعم رياض " رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في ميدان القتال ، ولم يكن هؤلاء وحدهم الذين ألمت بهم فجيعة الرحيل المفاجئ لرجل كانت تعلق عليه آمال المصريين وسائر العرب ،كان الوطن كله في حالة شاملة من الذهول والحزن، كان الملاين ،سواء من كانوا في الميدان أو باتساع الوطن في انتظار بدء مراسم الصلاة على الجثمان الطاهر ووداعه الوداع الأخير ، ورتبت المقادير ما أحمد الله عليه،فقد كنت واصلا من مدينتي عند ساعات الصباح الباكر ، وعلى الفور توجهت الى مسجد عمر مكرم حيث ستقام وقائع الصلاة ، غير أنني لم أستطع الدخول الى هذا المسجد الذي سيحتل بعد أكثر من أربعين عاما مكانا آثيرا ومحببا عند جموع المصريين . غير أنني أدركت على الفور من كثافة الحراسة وحشود الأمن المركزي ووجود شعراوي جمعة وزير الداخلية القوي وسط مئات من أركان وزارته ، أن الرئيس " جمال عبد الناصر " سوف يحضر لحظات الوداع ومراسم الصلاة على أحد جنوده الكبار .... وعند اقتراب الوقت من صلاة الظهر حدث ما كنت أتوقعه ،اذ وصل الرئيس وسط حراسة هائلة ، فالوقت وقت حرب ورئيس الأركان الكبير مات في الميدان ، والحماية واجبة على رجل بات أملا لجلب نصر أصبح حتميا ولا مفر، نصر هو عودة الروح لمصر واستعادة لهيبة اهتزت في يوم بلغت فيه القلوب الحناجروضاقت حينها الأرض بما رحبت، ذلك اليوم الذي كان ،وهذا اليوم الذي هو الآن ،كانت مسافة الزمن الفاصلة بينهما تصل الى عشربن شهرا بالتمام والكمال !!!


سارت الجنازة على وقع موسيقى عسكرية مؤثرة ومهيبة ، يضفي اليها جلال الموقف وبسالة الجنود على خط الجبهة في منطقة القناة أبعادا انسانية لا يمكن وصفها ولا يدركها الا من عايشها وكابد لحظاتها وعاش أيامها .....المشهد الجليل كما تجسد في تلك اللحظات النادرة في حياة المصريين بدا وقتها في  هتاف الآلآف من البشر وصلت الى عنان السماء تعلن التصميم على خوض الحرب أي كانت التضحيات ، فقد بات " رياض " هو الرمزالحقيقي لفداء القائد لمقاتليه من أبناء وطنه وموته بين جنوده، لقد أصبح الفريق " رياض " الرمز الذي كنا نبحث عنه في ليل دامس ، وتردد في أرجاء الميدان هتافات تمزج بين بطولة الكفاح وعظمة الاستشهاد ، بين " ناصر ورياض"....وما ان تحرك الموكب المهيب الذي لم ترى عيني مثيلا له الأ عند وداع " ناصر " في جنازة سميت بحق " وداع القرن " ،،،،، فقد ذابت الحشود العسكرية من قوات الجيش والأمن المركزي وقوات الحرس الجمهوري بين مئات الآلآف من الناس، فلم تعد عربة المدفع التي تحمل الجثمان الطاهرللفريق " رياض " دون أي حراسة ، كذلك كان وضع الرئيس ،فقد ذاب وسط الجماهير، ولا أدعي أنني أقتربت منه في هذه اللحظة ، بل كنت على بعد أمتار منه ، وفي مقدوري أن أراه وأحدد مشاعر الحزن العميق العميق على محياه !!! كان موقفا رهيبا ومشهدا لايغادر مخيلتي مهما تقادم الزمن وتسارعت السنين ، رأيت يومها عجبا ، فقد أحاطت الجماهير ب" ناصر" ووصلت بينه وبين الجثمان وحافظت حتى على مقتضيات الضيافة ، فقد أبقت من جاء معزيا للرئيس من شخصيات عربية وأجنبية بالقرب من الرئيس ، مشهد بلغ من العظمة مايندر تكراره ، حينها ولا أعرف سببا في كل هذا الزحام والمشاعر الوطنية والانسانية الجياشة ، سوى أن أتذكر صرخة المبدع " عبد الرحمن الشرقاوي " في مسرحية " الفتى مهران" حيث يخاطب " ناصر " رمزا " أهبط الى الناس أجعل منهم قلعتك "  !! ولسان حالي يقول : ومتى غاب عبد الناصرعن الناس حتى يجعل منهم قلعته ياستاذ " عبد الرحمن " ؟ وأعود وأقول لنفسي ربما يقصد هذه اللحظة!!!، أو كأن الله قد كشف عنه الغيب منذ سنوات خلت ، حيث جسدت المسرحية الرائعة على خشبة المسرح القومي عند مطلع الستينيات و"عبد الناصر" في ذرى المجد.. مشاعر متداخلة ومكثفة وسريعة وذات دلالة مبدعة ولامعة لا تتكرر الا في لحظات فاصلة وخاطفة في حياة البشر ،مررت بها آنذاك !! ففي اللحظات التي تعانق فيها الخطر أو تقترب من الموت ، تشرق هذه اللحظة النورانية الآلهية ... كأن الله عز وجل يريد أن يطلع البشر على آخر كشف حساب لهم قبل أن يودعوا الروح لدى بارئها  ؟؟؟



حينها أحسست بالاختناق ، فموجات البشر تكاثفت على نحو خطير لايمكن وصفه ، حتى ان السيد " شعراوي جمعة " سألته بعد هذا اليوم " العظيم/ الحزين" في حياة مصر بنحو خمسة عشرعاما  : أين كنت حضرتك في ذلك اليوم ؟ قال: كنت بجوار الرئيس عند انطلاق الجنازة من مسجد عمر مكرم ، وما هي الا دقائق حتى أحاطت الملايين بالرئيس ولم أستطع أن أواصل تواجدي بجانبه ،يومها سكت السيد " شعراوي جمعة " ماسحا الدمع من عينيه مما أثار دهشتي فأنا أعرف قوة هذه الشخصية ، وتاريخة الكبير في تأسيس جهاز المخابرات العامة المصرية مساعدا للعظيم " زكريا محيي الدين " .. المهم وبعد لحظات من الصمت كأنها الدهر ، أكمل هذا الرجل النبيل الذي لايعرف قيمته الأ من عرفه عن قرب .. قائلا " لم أستطع أن أدخل شارع طلعت حرب حيث سار الموكب الحزين ، ووجدت لا مفرمن أن أتصل بعدد من رجال الداخلية القريبين مني ، بعضهم كان بجانبي والآخر لازال قريبا الى حد ما من الرئيس بالاضافة الى عدد من المعاونين في ديوان الوزارة ، لكي يكثفوا الحراسة حول سيادة الرئيس ،الذين أبلغوني في أول الأمر  أن ذلك أمر مستحيل فقد أحاط به وبالجثمان الآلآف من البشر، ويواصل السيد " شعراويجمعه " حديثه الانساني النادر ، والذي أحمد الله أنني سجلته في حينه ،"  لقد اتخذت قرارا سريعا أحمد الله عليه ، أن تقتصرحركة الجنازة عند ميدان طلعت حرب ، ويتم التوجه الى المسجد القريب من وزارة الأوقاف المصرية والكائن في شارع هدى شعراوي لنقل الجثمان بعربة مدرعة من عربات القوات المسلحة لنقله الى مثواه الأخير ، بدلا من التوجه الى جامع الكيخيا القريب من ميدان العتبة وعلي رأس الشارع المؤدي الى ميدان عابدين ، حيث كان مقررا نهاية موكب الوداع... وبعد لحظات من التأمل والذهاب الى بعيد بعيد والصمت للحظات ، واصل وزير الداخلية العتيد ليقول " حدث مالم أتخيله كنت واقفا في حديقة جامعة الدول العربية الذي جعلت منها غرفة عمليات عاجلة ومكثفة ، وأنا في حالة لاتوصف من الرعب على حياة الرئيس، حالة لم أعيشها من قبل ولا من بعد، فالهواجس والمخاوف تزلزلني !!! ماذا يحدث لو حدث كذا وكذا ، افتراضات كثيرة ومرعبة ، ولولا عون من الله ، أن تمكن أحد لواءت الوزارة الى الوصول  للرئيس عارضا عليه التوقف عند ميدان طلعت حرب ، والخروج من الموكب الحزين ، والعودة به الى منزله ، مفسرا ذلك الاقتراح بصعوبة مواصلة المسير !! يومها ، والكلام للسيد " شعراوي جمعة " أبدى الرئيس غضبا رافضا الاستماع الى هذا المقترح ، بيد أن لواء آخر وكان يعرفه الرئيس شخصيا ، أبلغ سيادته ، أن " الفريق محمد فوزي " القائد العام للقوات المسلحة ، ووزير الداخلية ليس لديهم قوات كافية لحماية الموكب و الوصول الى ميدان العتبة حيث كان مقررا انتهاء المراسم ، واستبدل بدلا منه الجامع القريب من وزارة الأوقاف .... نظر الرئيس الى من يحادثه قائلا : اذن نحن اقتربنا من المسجد الذي تقصدونه ، وفي ضوء ذلك دعوني أرافق " رياض " وأصحبه الى ماتبقى من المسير ، فنحن الآن في ميدان طلعت حرب ، المسافة باتت قريبة ولن يضيركم شيئ اذا تركتموني مع واحد من أشجع وأنبل من انجبتهم مصر !!! أعاد على مسامعي السيد " شعراوي جمعة " ما نقله عدد من مساعديه عن الرئيس . حينها انفجر في بكاء حزين وعميق حتى أنني أسفت على طرحي هذه التساؤولات ، فبادرت بالمسح على يديه ، وأنا لا أعرف هل بكي الرجل القوي على " عبد الناصرأم الفريق رياض أم على وطن كان يعيش في محنة " ولم يزل ...؟؟؟
غدا نواصل : صلاح زكي أحمد ... الدوحة / قطر في 18-1-2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق