الخميس، 17 يناير 2013

الحكاية الثالثة - ناصر والفريق رياض " الجزء الأول..

ثلاث حكايات شخصية عن زعيم الأمة العربية 
في ذكرى ميلاد جمال عبد الناصر" الحكاية الثالثة والأخيرة 
- ناصر والفريق رياض " الجزء الأول..

( في تمام الساعة التاسعة صباحا من أحد أيام الثلث الأخير من شهر مارس عام 1969 ، دخلت عالمة الفيزياء الكبيرة المدرج الرئيسي في أحد الكليات العلمية التابعة لجامعة " عين شمس" لتلقي محاضرتها الأسبوعية على طلابها بعد أنقطاع دام أربعة عشر يوما ، وما ان وصلت الدكتورة : زاكية " باب المدرج ، بخطوات قوية واثقة وزي معتاد من الاحتشام لم يتغير لونه الأسود منذ هزيمة يونيو ، حتى ضج الحضورمن الطلاب ، شباب وفتيات ، بهتاف لازال يتردد صداه في اذني حتى الآن " رياض رياض ما متش ، والحرب لسه لسه ما انتهشت " ... كلمات وجدتً معناها في حينها تصميما على رفض الهزيمة من حناجر شباب سرعان ما التحقوا بكتائب الجيش المصري ،مشاركا في حرب الاستنزاف و مستمرا تحت السلاح حتى عبر في حرب اكتوبر 1973 محطما الهزيمة بكل آثارها .. 

الدكتورة العالمة هي " زاكية رياض " والشهيد الذي لم يمت هو الفريق أول " عبد المنعم رياض " والطلاب الذين ازدحم بهم المدرج كنت واحدا منهم ... لكن اللافت للنظر ، أن الدكتورة " زاكية " ما أن انتهى الطلاب من هتاف التحدي والكبرياء ، لم تتفضل بالحديث الا بكلمة واحدة .. " شكرا " ثم دخلت في محاضرتها على الفور ، الجميع كان ينتظر منها كلمة ضافية تحكي عما حدث بعد اشتشهاد شقيقها في ميدان القتال ، خاصة وهي المقيمة معه ، فقد أخلصت في هذه الحياة لمهمتين نبيلتين ، أولهما : العلم ، وثانيهما : الفريق رياض ، بالنسبة للاولى، فقد باتت من علماء الفيزياء الكبار على مستوى العالم ، أما الثانية ، فكانت الشقيقة الحنونة التي أعطت كل الحب والوقت والظروف لكي يكون الفريق رياض هو الفريق رياض،الجنرال الذهبي،عبقري العسكرية العربية طوال القرن العشرين !!! فالرجل لم يغادر ميادين القتال منذ عام تخرجه من الكلية الحربية عام 1938 ، ضابطا ومؤسسا لسلاح الدفاع الجوي في الجيش المصري حتي يوم استشهاده في التاسع من مارس عام 1969 رئيسا لأركان حرب الجيش المصري والأمين العام العسكري لجيوش العرب ، ولذلك مرت السنوات ، سواء عن قصد أو غير قصد ، دون أن يتمكن كلاهما في الزواج وبناء أسرة ، ويبدو ان القدر اتجه الى هذا الاختيار بلا تردد ، فكثيرا كان يتحدث الفريق رياض الى أصدقائه المقربين عن شقيقته بحب ، أما هي فلم تكف عن عشق اسمه حيا أو شهيدأ .


قصر الزعفرانه - جامعة عين شمس 

حينئذ بيًت أمرا كان بالنسبة لي ولبعض زملائي حلما ، فبعد ان انتهت الدكتورة " زاكية " من محاضرتها ، اتجه بعضنا الى مكتبها لنواسيها ، فلم نرى منها سوى صلابة وتحد وتصميم رغم ماحدث ، فكثيرا ماكانت تحادثنا عن شقيقها ، لكن ما فكرت فيه ترددت أن أبوح به في ذلك الوقت ورأيت من الحكمة تأجيله الى الاسبوع القادم ، فبعد أن فرغت من محاضرتها الثانية اثر عودتها للكلية ، ذهبت انا وثلاثة من زملائي اليها ، وبادرتها بعد الاتفاق معهم أن تحقق لنا تلك الأمنية الحلم ...أن نزور شقتها ، شقة الفريق " رياض " ... لم تتردد الدكتورة في الاستجابة للطلب الذي بدا مفاجئا لها ، وقالت بابتسامة حانية خجولة : تريدون أن نذهب سويا الآن أم نأجل الزيارة للاسبوع القادم ؟ ,,,أندفعت أنا بالاجابة ، وقلت على الفور " ياريت حضرتك توافقي على الذهاب معك الآن !!! بدا الأمر مثيرا للدهشة عند زملائي ، لكن عندما فرغنا الى أنفسنا ، شرحت لهم رغبتي التي أقمتها على سببين ، أولها أنني أريد أن أشاهد مكتب الفريق رياض ولازال نفًسه وروحه تحلق في المكان ، اريد أن أشاهد مكتبه كما تركه ، والثاني ، يتعلق بالدكتورة نفسها ، فمشاركاتها العلمية داخل مصر وخارجها كثيرة ولا تحصى وماهو متاح الان ربما لن نراه غدا ...


ذهبنا معها في سيارتها المتواضعة ، ونحن نمني أنفسنا بفخامة المنزل ، كما أفضى بذلك بعض الزملاء، غير أنني كنت أتمنى ان أرى مكتبة تعبر عن فكرهذا "الجنرال الذهبي" ، كما أسماه الماريشال "زوكوف " بطل الحرب العالمية الثانية وقاهر النازي ، عندما درسً له في أكاديمية " فرونزي العسكرية " أعظم معاهد الحرب في الأتحاد السوفيتي والعالم آنذاك ،اذ بعد استشهاد الفريق " رياض" وبأمر من الماريشال زوكوف ، ترك المقعد الذي كان يجلس عليه خلال دراسته فارغا غير مسموح أن يجلس عليه أحد ، ويقال في بداية كل دورة دراسية هنا ،كان يجلس " الفريق رياض، جنرال الحرب الذهبي "... 

عند دخولنا الشقة الكائنة في ضاحية مصر الجديدة والقريبة الى حد ما من منزل الرئيس" جمال عبدالناصر" لاحظت بساطة مدهشة في الأثاث ، ونظافة في المكان ملحوظة رغم زيارتنا المفاجئة فلم يكن هناك ترتيب مسبق ، وبعد واجب ضيافة سريع ، استئذنت الدكتورة " زاكية " مشاهدة مكتب سيادة الفريق ، بادرتني بابتسامة حانية ، قائلة وبكلمات تحمل من عبق العشرة مع الجنرال ما يؤكد عشقها لشقيقها وعمله ، قالت : أعرف أن هذا هو هدفك الاستراتيجي،أما زملائك ليس عندهم سوي هدف تكتيكي لايزيد عن معرفة مكان كان يعيش فيه " رياض" ... لأول مرة أسمعها تقول أسم شقيقها بدون لقبه أو رتبته، غير أنني لاحظت انها نطقتها بلهجة حب الأم تجاه الابن ، فيبدو من حيث المظهر الخارجي أنها الأكبر سنا من شقيقها ... غير أنا دخولنا غرفة المكتب فجر عندي عدة ملاحظات ، فالجدران مغطاة بمكتبة تشغل الحائط الذي على يمين ويسار الجالس على المكتب ، وانتبهت الى تعدد الكتب الأجنبية والمكتوبة بأكثر من لغة مما دفعني الى سؤال الدكتورة عن أي اللغات كان يتحدث سيادة الفريق ، ردت على بلغة العالم المدقق ، لم يكن يابني يتحدث ، ولكن كان يتقن الانجليزية والفرنسية والروسية والالمانية.... وقتها ألهمني روح المكان أن أستذكرأسماء الدكتور لويس عوض وزميله الدكتور مجدي وهبه والدكتور سامي الدروبي علماء الغة ومتقنيها في هذا الزمان ، وقلت لها أكيد هؤلاء الأفذاذ سوف " يحسون بالغيرة من سيادة الفريق " قالت والابتسامة تملأ وجهها رغم عدم دبلوماسية السؤال : أي غيرة يأبني ؟؟؟؟ هم في عالم وهو في عالم !!! لكن خطأي الدبلوماسي أنقدني منه بعض من معرفة دينية ، ورردت على الفور: عالمه بالتأكيد أفضل من عالمهم ، أن سيادة الفريق شهيد عند ربه، والشهداء أحياء يرزقون كما تعلمين حضرتك... غير أنني ذهلت باجابتها ، اذ قالت على الفور كلامك صحيح حتى اللحظة ، لكن ماذا يدريك أن يكونوا شهداء غدا أوبعد ذلك بشهور أو سنوات ، فالغارت الجوية للعدو تقتل حتى الأطفال والعمال ،،،في هذه الحالة الفريق "رياض" لايملك أمتيازا فكلهم عند ربهم سواء باذن الله ... أحد زملائي أراد أن " يتذاكى " وقال بلغة خشنة " بعضهم لن يرى الجنة اطلاقا ،فمنهم اثنين من الأقباط ... ولا أعرف أي دين للثالث الذي ذكره زميلي " ، وكان يقصد الدكتور سامي الدروبي ... لحظتها نظرت الدكتورة اليُ ، وكأنها لم تسمع ما قاله زميلي ،وقالت : ألم يلفت نظرك يا " صلاح " كتاب : في الحرب للجنرال الالماني ،أقصد البروسي " كارل فون كلاوزفتز" بأجزائه الثلاثة ، والموجود امامك في الرف الثالث !!! لقد تحدثت مع الفريق ، وذكرت له أسمك قائلة له : أنك قرأت هذه المجلدات ، وبعد ان أبدى " رياض " دهشته لقدرة طالب على هضم ماكتبه " كلاوزفينز" وهو من أصعب وأعقد الكتب العسكرية ، ذكرت له طريقتك في القراءة التي سبق أن شرحتها لي،فأبدى اعجابه بعد ان أبدى اندهاشه ... الرسالة كانت واضحة لزميلي، اما زميليُ الآخرين فقد لزما الصمت ولم يعلقا رغم مظاهر الغضب..... الا أن ملاحظتها المشجعة دفعتني الى الاشارة الى وجود كتاب " قائد البانز للجنرال الألماني الفذ ، هاينز جودريان ، زميل روميل في قيادة جيوش الحرب الالمانية خلال الحرب العالمية الثانية ، ففوجئت بتأمينها على ذلك ، ووجدتها تقول: " جودريان : هو مؤسس سلاح المدرعات الألماني بقدر ماكان ،روميل ثعلب الصحراء بحق "وواصلت الكلام ..المدرسة العسكرية الألمانية كان " رياض " معجبا بها أشد الأعجاب ، غير انه كان يقول أن كعب " أخيل " في تلك المدرسة يكمن في غياب الاستراتيجية ، فقادة الحرب الألمان أذكى كثيرا من قادتهم السياسين ، وعند أقتراب الحرب من نهايتها أدرك العسكريون فداحة جريمة الساسة حيث حاولوا انقاذ وطنهم ،لكن الوقت كان قد فات فقد حاول "روميل " أغتيال هتلر خلال اجتماع مشترك يضم قادة الحرب ، لكن المحاولة فشلت ، ودفع روميل الثمن ، فقد أعدم ...!!!

عند هذا الشرح البديع لقضايا الحرب على لسان عالمة في الفيزياء ، قلت لها حضرتك استاذة في الاستراتيجية بقدر علمك الواسع في تخصصك ... ابتسمت ، وقالت في كلمة ختامية ، كنت أتمنى أن تكون هذه الزيارة في وجود سيادة الفريق ، ومما أسعدني أن كانت كلمات تلك الأمنية موجهه اليُ ، الأمر الذي دفعني بحالة من الذكاء الفطري للفلاحين من أمثالي أن أقول لها " كان نفسي أن يحدث ذلك "...!!! بادرتني بما أذهلني ... عندما حدثته عنك وبعد رؤيتي لما كتبت ، أبدى الرغبة نفسها ، فلا تنسى أنه هو والفريق " محمد فوزي " قد أعادا بناء الجيش على أكتاف أمثالك أنت وزملائك...
خرجنا جميعا من غرفة الجنرال الذهبي ، لكن لاحظت ولاحظ زملائي ، أن "الدكتورة" أغلقت الغرفة على نفسها اثر خروجنا ، ومكثتً بها بضع دقائق ، ثم خرًجت وملامح الحزن على ملامحها، فبادرتها بالقول " لقد قرأنا الفاتحة على الروح الطاهرة لسيادة الفريق الآن "....ردت بكلمات تعبق بالايمان ... قصدك " عبد المنعم رياض" ...!! في اشارة الى أن الجميع أمام الله سواء ،بغير سلطان أو جاه او مال ...ثم نظرت الينا جميعا وقالت : وأنا فعلت كما فعلتوا بالضبط ، لقد قرأت الفاتحة على روحه الطاهرة ، ولا أبدأ يومي الأ بقراءة ما تيسر من كتاب الله هبة الي روحه... ثم أشارت الى مكتبه هنا أقرأ ، ولكن لا أسمح لنفسي أن أجلس على مكتبه ، حينها تذكرت كلمات جنرال الحرب الأسطوري " زوكوف " .... " على مقعد الجنرال "رياض "لا ينبغي أن يجلس أحد "...!!



صلاح زكي أحمد - 17-1- 2013 ... الدوحة / قطر



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق