الأربعاء، 16 يناير 2013

ثلاث حكايات شخصية عن زعيم الأمة العربية - الحكايه الثانية

ثلاث حكايات شخصية عن زعيم الأمة العربية :

الحكاية الثانيه - جيفارا و ناصر
( في واحد من أيام شهر فبراير من عام 1965 ، وعند ساعة تقترب من ساعات الظهر ، وصل القطار القادم من الزقازيق الذي كان يحمل المئات وأنا منهم ، كانت المرحلة الثانوية من التعليم العام هي سنوات دراستي،وحيث بدأت أيام عطلة نصف العام في هذا الشهر،لم يعد البقاء بين أحياء ومكتبات مدينتي مبررا لقضاء أجازتي بها،فالقاهرة بها سور الأزبكية حيث آلاف الكتب باسعار زهيدة تسد رمق عطشي للمعرفة ، وينبغي كذلك اقتطاع جزء من مصروفي المحدود لمشاهدة المسرح وعروض السينما حيث كانت وقتها القاهرة مدينة الجن والملائكة ، على حد تعبير عظيمنا الدكتور " طه حسين في وصفه ل" باريس " مدينة النور ...




المهم وقبل خروجنا من "محطة مصر" محطة قطارات القاهرة الرئيسية التي لم أرى مثيلا لجمالها الا في لندن ، محطة الملكة فيكتوريا ، أن منع عدد كبير من ركاب قطار الزقازيق وغيره من الخروج ، فقد وجدنا انتشارا أمنيا كثيفا في الساحة الداخلية من المحطة العريقة ، وفجأء دخل من الباب الرئيسي الرئيس " جمال عبد الناصر " وبصحبته رجل أقل من الرئيس طولا ، يرتدي بزة عسكرية ، ويحمل وجهه البهي لحية خفيفة تعبرعن عدم الاهتمام بالمعاني المباشرة للاناقة أو جمال الهيئة ، بل بالانهماك والانشغال فيما هو أهم ، العمل الثوري ، لم يكن عصيا عليٌ أو على الكثيرين معرفة الشخص المصاحب للرئيس ، كان ببساطة ، المناضل الثوري " أرنستو تشي جيفارا " الذي أفردت الصحف المصرية خبر زيارته للقاهرة والالتقاء بالرئيس " عبد الناصر " ... وكان لافتا أن الزيارة أمتدت لأكثر من أسبوعين ، تخللتها سفرات ل " جيفارا " لعدد من الدول الأفريقية ، عرف فيما بعد أن من بينها الكونجو حيث كانت تشتعل حرب تحريرضد الحكم الذي خلف المناضل الأفريقي الكبير " باتريس لومومبا " والذي مات مقتولا ومثل بجثمانه بأيدي الحكام الجدد ....


الساحة الكبيرة داخل المحطة العريقة ضجت بالهتاف من الآلآف بحياة " ناصر " وضيفه القادم من كوبا رفيق الرئيس " فيديل كاسترو" والمشارك في ثورته وهو الأرجنتيني الأصل ... كان الرئيس يصطحب الضيف الى مدينة شبين الكوم بمحافظة المنوفية لافتتاح مصنع جديد للغزل والنسيج يعمل به آلاف العمال .... المشهد كان مذهلا ، فقد أحاطت الجماهير بالرئيس وضيفه الذي بدت عليه الدهشة من تكسر الحواجز الأمنية التي كانت تحيط ب " ناصر " والذي كان يبادلهم التحية والسلام ... يومها كنت محظوظا ، او بالدقة نصف محظوظ ، فقد اكتفيت بالرؤية ولم أحظى بالسلام...غير أنني سرحت بعيدا بعيدا عن صخب الاستقبال الاسطوري لرجل كان أسطورة الفقراء والأحرار في عصره ، وكان ملهما للثورة الكوبية من ضمن عشرات الثورات التي ساندها ، حيث أبلغه زعيمها " فيديل كاسترو " عندما التقاه في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للامم المتحدة في عام 1960 ... قال له " فخامة الرئيس ناصر ، لقد كنت باعثا للروح في ثورتنا ومثلا يحتذى لنجاحها ، فلم ننسى صمود شعبكم في معركة السويس خلال معركة 1956 ، عندما كنا نصاب بالالم أو الانتكاس نقول : أمامنا مصر وناصر، لقد انتصرا بالارادة والتصميم على أعداء أكبر منهم عددا وتسليحا " 
ذهبت بالخيال أو قل بمشاعر الحلم ونسيج التمني الى حيث دارت حوارات رائعة وممتعة بين الرئيس وضيفه ، حول الثورة والاشتراكية وحركات التحرر الوطني والتنمية والحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي وحرب فيتنام والثورة الثقافية في الصين وغيرها وغيرها ، عالم أصبح أقرب الى الخيال ، كان زمنا غير الزمن ، وكان أملا غير كل الآمال !!! 



عندما التقى عبد الناصر ب " جيفارا " بادره بالسؤال عن حالته الشخصية ، اذ لاحظ الرئيس ملامح الحزن تكتسي وجه الثائر القادم من بعيد ...قال له " تشي أرى وجهك حزينا ، ماذا بك ؟ بعد صمت لم يطل واثر نفس عميق يسمى في لغة الضاد ، تنفس الصعداء ، تحدث جيفارا بلا حواجز، فقد قصد القاهرة ليحادث زعيمها في أمر بدا شديد الخصوصية ، قال له : تعرف انني وزير التجارة والصناعة في الحكومة الكوبية ، لقد فشلت في عملي التنفيذي لا لسبب معين ، انا لا أصلح الا للثورة ، أشعل الثورة هنا وهناك ضد الاستعمار حيث يكون . ولذلك فقد تركت استقالتي للرفيق كاسترو وجئت كي أسمع مشورتك ... توقف عن الكلام ، وهيأ نفسه للاستماع !! ابتسم الرئيس ، وبعد أن تفحص وجهه مليا ، وبدت ملامح الراحة تعود الى قسماته ، قال له : قصدك ياتشي أنك اصطدمت مع البيروقراطية في الدولة الكوبية ، أنت لم تفشل ياصديقي ، لقد قرأت كل أعمال ماركس ولينين وماو تسي تونج ، باختصار قرأت أغلب الأدبيات الماركسية لم أجد فيها جوابا شافيا لتلك المعضلة التي تتعلق بين الثورة والدولة ، فالثوار يتسلمون جهاز الدولة واغلب كوادره الفنية من بيروقراطية العهد القديم ... !! مشكلة كما تري ليست بالبسيطة ، وواصل " ناصر "حديثة قائلا " أنت كما تتمنى وغيرك وأنا " نريد الدولة لتكون في خدمة الثورة "... سكت الرئيس ليستمع لرد " جيفارا " الذي أسرع بالرد نعم ياسيادة الرئيس ، لكن الرئيس بادره بالقول ، أنت ياعزيزي لا زلت رومانسيا ، الثورة ساعة أما الدولة فهي حتى قيام الساعة ؟؟ بدت كلمات " ناصر " استلهاما لتراث عريق من الفكر الاسلامي . وحتى لايترك ضيفه في حيرة ، واصل الحديث بعد توقف قصير ، الثورة يا" تشي " هي أقرب الى فترة الخطوبة في حياتنا ، جميلة للغاية ، لكنها تنتهي بعد حفلة الزفاف ، بعد هذه الحفلة دخلت في الجد ، عليك استكمال تأسيس البيت بكل ماهو ضروري،والبحث عن عمل للزوجة اذا لم يكن لها عمل ، ثم الأولاد ومدارسهم والسهر عليهم تعليما وتثقيفا وتربية ، ثم فضلا عن ذلك مواجهة مشكلات طارئة لم تكن في الحسبان ... عندها سكت " جيفارا " وذهب بعيدا بعيدا ، ولم يتركه " ناصر" في حالته الانسانية تلك كثيرا ، بل بادره بالقول : ان مسئولية الدولة أعظم وأقوى من مخاطرة القيام بالثورة ، فالثوار ربما ينجحون وربما يفشلون وفي الحالتين المسئولية شخصية لأصحابها دون ترك أي أثرعلى الآخرين ، والاخرين هنا هم عموم الناس ، أي الشعب ... رد " جيفارا " بسرعة ، وكان رده أقرب الى طلب ...قال " سيادة الرئيس . عرفت أنك ذاهب غدا الى أفتتاح مصنع جديد في مدينة قريبة من القاهرة ، هل بمقدوري أن أذهب معك ؟؟ ابتسم الرئيس ، بل ارتفعت ابتسامته الى حد الضحك المسموع..... " جيفارا " اذا لم تطلب مني هذا الطلب، كنت رجوت أن تأتي معي ... صديقي أهلا وسهلا بك ، قالها بالعربية أولا ، ثم اتبعها بالانجليزية .


في اليوم التالي كان عبدالناصر وجيفارا في "محطة مصر" حيث أكرمني الله برؤيتهما ، كانا في طريقهما الى " شبين الكوم " وهناك كان الاستقبال اسطوريا ، حيث توافقت الزيارة مع حملات انتخابية للرئيس ، لفترة رئاسية جديدة ، وفي وقت ترددت فيه شائعات قوية عن ترك " ناصر" موقعه الرئاسي لكي يقود التنظيم السياسي الوحيد في البلاد ويتفرغ لبنائه ، ولذلك اكتسب الاستقبال هذه الحالة الكبيرة من الحفاوة ، فالشعب لا يتصور " ناصر" بعيدا عن موقعه الرئاسي ... حينها وجد " جيفارا " ضالته في الجماهير التي أحاطت بسيارة الرئيس وضيفه ، قائلا للرئيس وملامح الفخر والفرح على وجهه ، هذه هي الثورة ياسيدي ، لكن " ناصر" بادره بالقول " تشي هذه الحفاوة ليس مبعثها حبا لشخصي ، ولكن سببها أنني قررت بناء هذا .. وأشار الى المصنع الجديد ، الناس لا يجدون من الثورة نفعا ،دون أن تقدم الدولة مثل هذا ، عشرات المصانع والمزارع ومئات المدارس والمستشفيات ، الثورة تنمية وتطور ... سكت جيفارا ، وبدأ المؤتمر الجماهيري الذي كان فيه الآلآف يستمعمون ويهتفون ، خطب " تشي ، وقال كلمات ترجمت فورا على الجمع ، قائلا كلمات أراد أن تكون قليلة ومعبرة   " أصدقائي ، أيها الرفاق ، هل  تسمحوا لي أن أضم صوتي الى صوتكم في انتخاب الرئيس ناصر ؟؟هتف الجمع بصوت عال وهادر .. نعم ياجيفارا !!!




عند العودة الى القاهرة ، وملامح الارتياح بدت على كل الوجوه ، تحدث تشي وكان الحضور في صالون الرئاسة في قطار الرئيس،على أعلى درجة من الاهتمام .. قال جيفارا وبشكل مفاجئ ومخالف لكل التوقعات ... سيدي الرئيس ،ان قصة التحول في حياة أي انسان تحل في اللحظة التي يقرر فيها الانسان الموت، فاذا قرر أن يجابه الموت يكون في هذه الحالة بطلا سواء نجح ام فشل !!! وبعد ان استوعب عبد الناصر ملامح الدهشة على الحضور من زملائه قال كلمات من ذهب ( تشي... لاحظت عليك أنك تتحدث كثيرا خلال زيارتك الحالية عن الموت ؟؟!! ان علينا ياصديقي أن نموت من أجل الثورة اذا كان ذلك ضروريا ، ولكن من الأفضل بكثير أن نعيش من أجلها ) 




مرً القليل من الأعوام على هذا الحوار النادر، ومات " جيفارا " في أحراش وغابات بوليفيا في ثورة لم تتوفر لها أي قدر من عوامل النجاح ، فقد بات الرجل منذ قتله غدرا وخسة في نوفمير 1967 رمزا للثورة ، حيث اختار الموت ليكون بطلا بصرف النظر عن النجاح والفشل... يومها بلغ الحزن مبلغه في القاهرة ، حيث تذكر عبد الناصر حوارته مع هذا النبيل الجميل ، غير أن المحيطين ب" جيفارا " أشاروا الى أنه قد أبلغهم خلال رحلة العودة الى كوبا " بأنه لم يسمع من أي ثائر ماسمعه من عبد الناصر، فقد نقلني" ناصر " برفق من حلم الرومانسية الى خشونة الواقع ، لقد نقلني من فترة الخطوبة الحالمة والرومانسية الجميلة الى أعباء الحياة الزوجية ومتاعب الاولاد . اذا كنت أنا وغيري نمثل الثورة ف" ناصر" هو الدولة والثورة معا ... ومثله في التاريخ قليل ونادر "


صلاح زكي أحمد ... الدوحة 16- 1-2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق