الاثنين، 14 يناير 2013

لماذا في البلكونة؟



البلكونة في الحياة المصرية والعربية لها أكثر من حكاية ، لأن لها أكثر من اسم. فهي في اللغة العربية تسمى "الشرفة"، وفي اللغة الفرنسية تسمى "فارندة" وفي التركية يطلق عليها "التراسينة" أما في لغة "شكسبير" فتعرف باسم "البلكونة" وهي الأكثر شيوعا وانتشارا في مصر ، وربما في الوطن العربي.
غير أن الشرفة أو البلكونة ، تحتل في العائلة المصرية موقعا أثيراً ومؤثراً، فكلنا نرى في البلكونة مصدراً لأخبار أهل الشارع والقرب من أحوال "أولاد حارتنا"، وذلك عندما تكون المنازل في حالة من التقارب بل والالتصاق، عندها يكون الخبر الواحد في البيت الواحد هو الموضوع المفضل عند كل البيوت، وتتعدد الحكايات والروايات. فكل من في الحارة يتحدث عما سمعه وربما عما رآه من زاوية العلاقة بين المنزل أو البلكونة مصدر الخبر. فالشامت يراها من زاويته، مبعثاً للبهجة والفرح، والعياذ بالله. والمتضامن يتعاطف بالكلمة او "مصمصة الشفاه"! ، أم ابن الأصول والشهم فهو يهب للنجدة ولهفة المستغيث.
البلكونة لها حكايات لا تنتهي. فكلنا نذكر وقوف عائلة الريس "عبد الواحد الجنايني" والد "علي"، الضابط في حركة الضباط الأحرار وشقيقه "حسين" الضابط في الشرطة، وذلك في فيلم "رد قلبي" المأخوذ عن رائعة "يوسف السباعي" التي تحمل نفس الاسم. عندما سمعوا هتاف الجماهير مهللة ومرحبة وفرحة ومبتهجة بنجاح ثورة يوليو 1952. يومها هتف الجميع للثورة، ولم يدرك الأبناء الذين ازدحمت بهم البلكونة ، أن الأب عم "عبد الواحد" الجنايني يهتف مع الهاتفين بحياة الثورة والضباط الأحرار، فالفرحة أنطقت الرجل الذي أخرسته اهانة الباشا "الأمير كمال"، شارك فيها بوقاحة نجله "الأمير علاء الدين" له عندما تجرأ في طلب يد ابنته "انجي" عروسا لابنه "علي" الضابط في الجيش، فقد رفض طلب الجنايني، بل حمل طلبه بعاصفة من الاهانات والشتائم، أفقدت الرجل البسيط المكافح القدرة على الحركة والنطق. باختصار اصيب الرجل بالشلل لأنه تصور أن الناس سواسية, ولا فرق بين عربي وأعجمي ولا أبيض وأسود ولا غني وفقير الا بالعمل الصالح والتقوى.
  "الريس عبد الواحد" استرد عافيته عندما استرد شعبه كرامته واستعاد وطنه عزته، عندما رفع المصري رأسه عاليا عندما نجح في اسقاط الاستعباد. البلكونة في تلك اللحظة دخلها أفراد لمعرفة آخر الاخبار، خرج منها نفس الأفراد وهم في حالة مختلفة تماما. فقد دخلوا والهم والغم يشملهم جميعا، ورب العائلة نصف ميت، نصف حي، وخرجوا فرحين مستبشرين بغد جديد، ورب الأسرة المسجل في عداد المفقودين معنويا ونفسيا يستعيد لياقته الصحية والانسانية.


البلكونة في حياتي لها نفس الأهمية التي عند أغلب المصريين، فالمناخ المعتدل، وسطوع الشمس طوال اليوم واستمرار دفئها حتي في أيام الشتاء، جميعها عوامل مساعدة لعشق البلكونة و التعايش معها. فقد مرت البلكونة بذكريات جميلة وطيبة في مراحل مختلفة من سنوات العمر. ففي أيام الصبا كانت موضعا لقراءة المقال الاسبوعي "بصراحة " للاستاذ محمد حسنين هيكل والاستمتاع بـ"أيام لها تاريخ" للاستاذ أحمد بهاء الدين، فضلا عن العباقرة جمال حمدان وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ولويس عوض وحسين فوزي وعائشة عبد الرحمن وغيرهم كثير.
تعددت الأماكن واختلفت "البلكونات" حتى أكرمني الله بـ"بلكونتي" الحالية الأثيرة الى قلبي. فطولها يبلغ من الأمتار سبع، أما عرضها فيصل الى اثنين، وتطل على حديقة بديعة، وترتفع عن أرض الشارع بثلاثة أدوار، والمنطقة بأكملها يلفها الهدوء الذي كان ينعم بها سكان "معمورة الاسكندرية" زمان. ربما هذه الأسباب هي التي أدت الى أن أقرر تحويل هذه البلكونة الى مكتبة تحتوي على مئات الكتب. بعدها باتت الجلسة في البلكونة مع تلك الصحبة من مفكرين وأدباء وعباقرة لا تعادلها صحبة. بل إنني إمعاناً في الاحترام والمحبة لا أدخلها إلا وقد ارتديت ما ارتديه عندما أتوجه لزيارة صديق عزيز.
وعند انتهائي من تلك "الزيارة" المفترضة، أعود الى حياتي المعتادة من مأكل ومشرب والاستماع الى نشرة الأخبار والبرامج الحوارية ، حيث يسود الكثير منها : صخب غير منتج بل ومؤذي!
هذه هي البلكونة التي أعشق فيها ومعها الحياة. أقول ذلك وأنا على أعتاب مرحلة جديدة من العمل، لا أجد لها عنوانا أفضل من كلمة: الحرية. الحرية في القراءة والاطلاع والكتابة فيما أحب وأهوى، مرحلة أتمنى من الله العلي القدير أن يوفقني لإتمام ما بدأته على صعيد الفكر والثقافة والسياسة والتأليف. فوفق ما قاله عمنا "صلاح جاهين": اللي ألف مامتش.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق