الحكاية الاولى :
في الصباح الباكر من شهر ديسمبر عام 1963، تجمع عشرات الآلاف من الناس على رصيف محطة السكك الحديدية لمدينتي، مدينة الزقازيق، والتي تقع على الطريق الواصل بين القاهرة ومدينة بورسعيد.
أعداد كبيرة من تلاميذ مدرسة النجاح
الاعدادية كانوا من بين الحضور وكنت واحدا منهم، حيث كان كلٌ منا يمسك علم
البلاد وصورة رئيس البلاد. الكل كان ينتظر القادم الكبير،
وكل منا يمني نفسه بملامسة يده أو حتى رؤيته من بعيد. ويبدو ان هذا الاحتمال
هو الأقرب. فجأة بدت حركة غير عادية في المحطة، فقد ظهر من بعيد قطار يسحب
ورائه القليل من العربات المميزة وعليها علم كبير للجمهورية العربية المتحدة
والمكون من اللون الاحمر والأبيض والأسود، ويتوسط مساحته البيضاء نجمتين لونهما
أخضر، ترمز احداهما لمصر، الاقليم الجنوبي، والثانية لسوريا، الاقليم الشمالي. كان
الزمن وقتها هو الثالث والعشرين من ديسمبر من عام 1963. أي بعد عامين من وقوع
الانفصال الغادر الذي أطاح بأمل أول وحدة عربية في التاريخ الحديث في 28 سبتمبر من
العام 1961 ، وانفصال سوريا عن مصر. مشهد هذا العلم العزيز الى قلبي أفاض علي
بتلك المعلومات التي أصبحت الآن بقايا ذكريات. كنت اتحدث مع زملائي وأستفيض في
الشرح نزولا على رغبة الزملاء ، فأنا " المتابع الحصيف " لمقالات الاستاذ " هيكل " وزميله الاستاذ " احمد بهاء الدين "! فجأة
وانا مندمج في الشرح والتفسير انطلقت عاصفة من الهتاف والفرح والذهول. فقد وصل
القطار الذي يقله الرئيس " جمال عبد الناصر " بعد دقائق من مرور القطار
الأول الذي عرفنا أن أسمه " قطار المقدمة " ومهمته تأمين الطريق الحديدي
لقطار الرئاسة حتى مدينة بورسعيد ، محطة الوصول.
المناسبة كانت توجه الرئيس الى المدينة الباسلة ليشارك أهلها الاحتفالات السنوية بعيد النصر على دول العدوان الثلاثي " بريطانيا وفرنسا واسرائيل " في عام 1956 ، ومن أجل الوصول الى بورسيعد كان عليه أن يمر على الزقازيق. في تلك اللحظة شمل الجميع حالة لاتوصف من الحب الصوفي الذي يصل الى حد أن تنسى كل ما يحيط بك من أجل اقتناص لحظة رؤية الزعيم الذي كنا نعيش ونحلم برؤيته ، فهو الأمل والرجاء والآمان. هو فعلا ذلك الحلم الذي لم ينقطع رغم سنوات الغياب. كان يتوسط عربات القطار الذي يسير بطيئا بطيئا ، عربة مميزة ، وبدا مطلا من شرفتها رافعا كلتا يديه محييا محبيه ، وبجواره شاب صغير السن عرف باسم " الملك الحسن الثاني" ملك المغرب الشقيقة والذي تولى الحكم في بلاده غداة وفاة أبيه الملك " محمد الخامس " في ظروف غامضة أحاطت باجراء عملية جراحية بسيطة في " اللوز" للملك الراحل النبيل. المهم لم ير أحد سوى الرئيس ولم تتوجه الأنظار الا للرجل الذي تعلقت به الأحلام ، وفجأة بدأ القطار في زيادة سرعته والخروج خارج المحطة ، والرئيس يواصل التحية , وبشكل عفوي ولا ارادي نزل الآلاف من الطلاب والشباب من رصيف المحطة ملازمين القطار في حركته ، مركزين النظر الى الرئيس في حركة انسانية نادرة ، كلما تذكرتها امتلأت العيون بالدمع ، واهتزت المشاعر بالمحبة ، فقد أحسست حينها وسمعت بكل نقاء زمن البراءة والطفولة والنقاء كلمات " جمال عبد الناصر" ( خلاص يأولاد روحوا ، خلاص روحوا ، متشكرين متشكرين ، ابعدوا عن القطر ... خلاص (
أسرع القطار ولم يعد في مقدور أحد ملاحقة الأمل الذاهب الى بعيد. عدنا والجميع يحكي بفخر " شفت الريس قال لي ابعد عن القطر " الجميع
يحكي نفس الكلمات ، والجميع يفاخر بان الرئيس كان يحادثه شخصيا. غير ان الجميع
لم يدرك أن من لهفة المحبة والعشق والذوبان في الرجل الذي بشر به " توفيق
الحكيم " في رائعته " عودة الروح "، أن الجميع لم يدرك أن أحذيتهم
البسيطة تمزقت من عنف السرعة والجري على أرض مليئة بالزجاج والزلط والأشواك الملاصقة
لخط القطار ، والأغرب أن الدم بدأ ينزف من أقدام الطفولة الغضة ، ونحن رغم ذلك
نبتسم ونضحك ونفخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق