الاثنين، 21 يناير 2013

الحكاية الثالثة : ناصر وعبد المنعم رياض : الجزء الثالث


ثلاث حكايات شخصية عن زعيم الأمة العربية .
في ذكرى ميلاد جمال عبد الناصر:
الحكاية الثالثة : ناصر وعبد المنعم رياض : الجزء الثالث .
( في قاعة الاجتماعات الرئيسية في القصر الجمهوري بالقبة ، وعند حوالي الساعة الثامنة مساءا ،كانت الجلسة الاسبوعبة من اجتماعات مجلس الوزراء برئاسة الرئيس " جمال عبد الناصر " .. وبينما الرئيس يتحدث عن أوضاع الجبهة الداخلية،دخل احد موظفي الرئاسة الى القاعة منتظرا اللحظة التي يتوقف فيها الرئيس عن الحديث ، حينها لاحظ " ناصر " حالة من القلق تنتاب الرجل ... توقف عن الكلام ، موجها حديثه الى الموظف الذي يعمل في سكرتارية المعلومات التي يديرها السيد " سامي شرف " قائلا : ياستاذ " فلان " ماذا عندك ؟.. تقدم الرجل بورقة صغيرة الى الرئيس مباشرة ، قرأها على الفور ، والحضور من الوزراء يوجهون نظرهم الى الرئيس ، وعلى الفور حدث ما لم يحدث من " الريس " من قبل ، اذ وضع رأسه بين كلتا يديه ، واضعا اياهما على طاولة الاجتماع لا ينطق بحرف ... لحظة كأنها الدهر والجميع في حالة من الدهشة والخوف والرعب !!! ماذا جرى وماذا قرأ الرئيس وجعله في تلك الحالة غير المعتادة عنه ؟؟؟ ... تحدث ارئيس بكلمة واحدة " مات الفريق رياض ، استشهد رياض قرب الاسماعيلية وبين جنوده !!!... ساد القاعة الكبيرة صمت رهيب ، وانفجر البعض في بكاء مسموع وآخر لا يبدو منه غير دموع تنساب من العيون ، وأخرين لم يجدوا ما يفعلوه سوى التطلع الى سقف القاعة متأملا ومواسيا لنفسه ، فقد عجز الجلوس حتى عن تقديم المواساة الى الرئيس ، فالجميع أو قل أغلب الحضور كان يعرف الفريق رياض شخصيا ، غير ان القائد العام الفريق أول " محمد فوزي " الذي كرر كلمة " مش معقول مش معقول أكثر من مرة " بادر بعد لحظات من الهدؤ واستيعاب الكاراثة ، باستئذان الرئيس بالخروج للحصول على المزيد من المعلومات ، وبعدنحو خمسة عشر دقيقة ، عاد " فوزي " وعنده الكثير من التفاصيل ... كان الفريق رياض ، عند منطقة محاذية للضفة الغربية للقناة ، وتحديدا عند موقع يسمى " نمرة ستة " ، كان يتفقد الجنود ويطمئن على مدى استعداد القوات ، وبينما هو يتنقل من موقع الى آخر وبرفقته عدد من القادة ، ذكر منهم اللواء " عبد التواب هديب واللواء أحمد اسماعيل علي" قائد الجبهة ، استئذن عدد من جنود أحدى وحدات الدفاع الجوي" رياض " لزيارة موقعهم ، استجاب حينها على الفور ، مبادلا اياهم بكلمات هي الأخيرة في حياته ، حيث قال لهم ( لا أستطيع ان أتخلى أو أرفض ماتطلبوه ، الا تعرفون يأبنائي أن سلاح الدفاع الجوي هو سلاحي الأصلي ) !!! وما ان تحرك معهم ودخل أحد الخنادق في موقعهم حتى انهمرت القذائف على موقع قريب من الفريق رياض ، وبفعل تفريغ الهواء والضغط الذي تحدثه قنبلة بقوة واحد طن ، مات سيادة الفريق ، دون ان ينال جسده أي شظايا ، بينما اصيب عدد من المرافقين بجروح متنوعة تم علاج بعضها في الميدان ...



وبعد ان انتهي الفريق " فوزي " من حديث المعلومات ، عاد الرئيس الذي عصره الحزن عصرا ... الى ما يبدو استكمالا لما بدأه القائد العام ، وان كان يتعلق بالساعات الاخيرة من حياة الرجل ، قال الرئيس : لقد مرً عليً الفريق فوزي ومعه الفريق رياض أول أمس ، أي يوم السابع من مارس من عام 1969 !! وبدا تحديد الرئيس للزمن والوقت ما يعني الكثير ، كأنه يريد ان يسجل لحظة تاريخية في حياة مصر والجيش المصري ، لقد وصلا الى بيتي عند ساعات الصباح ليناقشوا معي وفي وجود عدد من مساعديهم بدء عمليات ما أطلقت عليه حرب الاستنزاف والتي تضم ثلاثة مراحل كما حددها الفريق رياض نفسه ، الاولى مرحلة الصمود والثانية مرحلة الردع ثم تختتم بمرحلة التحرير باذن الله بالعبور الى سيناء ، ثم سكت الرئيس وبدت قسمات وجهه مزيجا من الحزن العميق والتصميم وقدر لا بأس منه من مشاعر انسانية مختلطة بينها الندم ... لقد قلت له لا داعي للذهاب الى الجبهة الآن ، قلتها له عندما أبدى لي هذه الرغبة ، معللا ذلك بكلمات بدت قاطعة ، فيبدو أنه قد عزم أمرا لارجوع عنه ، قال لي : يافندم العمليات سوف تبدأ عند ساعات الفجر من صباح الغد أي الثامن من مارس ، سوف أترك 24 ساعة فقط من القصف على مواقع العدو الذي يطلقون عليه اسم رئيس أركانهم " حاييم بارليف " ويسمونه خط بارليف ، وبعدها أذهب الى الميدان لأطمئن على سير العمليات ، ثم سكت الفريق رياض ، والكلام لا زال ل " ناصر" ... قائلا له : يافندم ثمة مهمة اخرى بالغة الأهمية ، لقد أرسلت بالتنسيق مع سيادة الفريق فوزي كتيبة استطلاع منذ نحو اسبوعين ، اريد ان أسمع منهم مباشرة وأطمئن على أفرادها فردا فردا ، فأنا أعرفهم جميعا فقد عايشتهم نحو ثلاثة أشهر في تدريبات خاصة ، وفي مناطق مختلفة من البلاد ، وأظن ياسيادة الرئيس قد عرفًت سيادتكم ببعضهم خلال المناورات الكبيرة التي حدثت منذ نحو شهر ,,, سكت الرئيس ، وقال كلمته الأخيرة للوزراء الذين ران بينهم وعليهم الصمت الرهيب ، وبدت القاعة لا يسمع فيها صوت غير صوت عبدا الناصر ... الذي تحدث بعد لحظات من السكون العميق ، لقد أحسست عنده ، أي رياض ، برغبة عارمة من أب يريد أن يطمئن على أولاده بعد سنوات من الغياب !!! بعدها اذنت له وكان ما كان ، انه القدر والأعمار بيد الله ، ثم طرح الرئيس في نهاية حديثه سؤالا على الحضور ، من المفروض أن يصدر بيان الآن يتحدث عما وقع وننعي فيه الوطن عن غياب الفريق رياض ، ماذا نقول عن ملابسات الوفاة ؟؟؟ البعضمن الحضور وكلهم من الوزراء وكبار المسئولين طرح عددا من الأفكار ، والأخر توقف عن الحديث ملتزما الصمت وملازما اياه ، غير أن الفريق فوزي بادر باقتراح ، وكان على الوجه التالي : أن يذكر البيان أن سبب الوفاة هي حادث سير ويقول ما نصه " خلال قيام الفريق عبد المنعم رياض بزيارة الجبهة لتفقد الأوضاع القتالية للقوات المسلحة المصرية تعرض لحادث مؤسف أودى بحياته ، ولم يصب من مرافقيه احد .... ويستكمل البيان كلماته بما هو معتاد في تلك الحالات ، من : التعبير عن الأسف وبالغ مشاعر الحزن لفقدان رئيس الأركان ... الى أخره ... غير أن الرئيس عبد الناصر الذي كان يتابع مشاعر الحضور في ذلك المقترح أراد أن يستطلع رأيهم في تلك الصيغة التى قدمها الفريق فوزي ...



بعد نحوخمسة عشر عاما من هذا الحدث الجلل ، وتحديدا في عام 1984 كنت جالسا أمام الفريق " محمد فوزي " هذا الرجل الوديع جدا البسيط جدا الفلاح جدا العظيم جدا ، أقول له : سيادة الفريق ، اسمح لي أن أقترب من هذه اللحظة ، ماهو القرار الذي اتخذ بالتعامل مع خبر الاستشهاد ؟ أعرف أن حضرتك أقترحت وصف ما حدث بأنه حادث سير!! ماذا عن النهاية ؟؟؟ ... أطلق الفريق فوزي نفسا عميقا ، وفاجأني بالقول : أن اغلبية الوزراء كانوا مع وصف حالة الوفاة بمثل ما أردت غير ، أن الرئيس قال بما هو مقنع ، فقد فسرت اقتراحي بعدم ترك فرصة للاسرائيليين للشماتة في موت رئيس أركان الجيش المصري ، حينها تحدث الرئيس مغيرا اتجاه الحوار كاملا : قال الرئيس : بل هو استشهاد ، ولتذهب شماتة اسرائيل الى الجحيم ، فااستشهاد رياض ، بات رمزا للعالم ولجنوده قبل العالم ، أن يكون حادث سير هو كل ماحدث فلن يضيف للجيش والمقاتلين شيئا بل أسف عميق وحزن عابر فقط !! سرعان مايزول أثره ، ما أريد أن أقوله وينبغي أن يكون واضحا للعالم ، أن في مصر قادة كبار يقولون لمقاتليهم " أتبعوني " لا " اسبقوني " قادة يموتون وسط جنودهم وفي وسط الميدان ، قادة يصبحون اليوم وغدا رمزا للفداء والتضحية .... ثم سكت الرئيس ، لحظة ، وليكن يوم التاسع من مارس من كل عام هو يوم الشهيد في صفوف القوات المسلحة المصرية ... حينها سكت الفريق فوزي عن الكلام لبضع ثوان ... ثم ختم بالقول : كان عظيما ... فبادرته بالسؤال من هو الموصوف بالعظمة تقصد حضرتك ؟؟؟ ، رد على الفور والابتسامة الحزينة لا تغادر وجهه : الأثنين الأثنين ، " الريس ورياض " فكلاهما ماتا وهم شهداء ، رياض استشهد في ساحة الحرب وعبد الناصر ، استشهد في ساحة المبدأ ، ساحة اتسعت باتساع أمة العرب وامتدت حتى ملئت دنيا الفقراء والأحرار في أفريقيا وآسيا ,,

صلاح زكي أحمد ... 20-1- 2013 الدوحة / قطر 

الجمعة، 18 يناير 2013

: ناصر والفريق عبد المنعم رياض ... الجزء الثاني


ثلاث حكايات شخصية عن زعيم الأمة العربية
في ذكرى ميلاد جمال عبد الناصر : ناصر وعبد المنعم رياض " الجزء الثاني "


( في حوالي الساعة العاشرة صباحا من يوم العاشر من مارس عام 1969 ،كنت واحدا من نحو مليون مواطن مصري في ميدان التحرير بوسط القاهرة باتوا ليلتهم الماضية على فجيعة موت الفريق " عبد المنعم رياض " رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في ميدان القتال ، ولم يكن هؤلاء وحدهم الذين ألمت بهم فجيعة الرحيل المفاجئ لرجل كانت تعلق عليه آمال المصريين وسائر العرب ،كان الوطن كله في حالة شاملة من الذهول والحزن، كان الملاين ،سواء من كانوا في الميدان أو باتساع الوطن في انتظار بدء مراسم الصلاة على الجثمان الطاهر ووداعه الوداع الأخير ، ورتبت المقادير ما أحمد الله عليه،فقد كنت واصلا من مدينتي عند ساعات الصباح الباكر ، وعلى الفور توجهت الى مسجد عمر مكرم حيث ستقام وقائع الصلاة ، غير أنني لم أستطع الدخول الى هذا المسجد الذي سيحتل بعد أكثر من أربعين عاما مكانا آثيرا ومحببا عند جموع المصريين . غير أنني أدركت على الفور من كثافة الحراسة وحشود الأمن المركزي ووجود شعراوي جمعة وزير الداخلية القوي وسط مئات من أركان وزارته ، أن الرئيس " جمال عبد الناصر " سوف يحضر لحظات الوداع ومراسم الصلاة على أحد جنوده الكبار .... وعند اقتراب الوقت من صلاة الظهر حدث ما كنت أتوقعه ،اذ وصل الرئيس وسط حراسة هائلة ، فالوقت وقت حرب ورئيس الأركان الكبير مات في الميدان ، والحماية واجبة على رجل بات أملا لجلب نصر أصبح حتميا ولا مفر، نصر هو عودة الروح لمصر واستعادة لهيبة اهتزت في يوم بلغت فيه القلوب الحناجروضاقت حينها الأرض بما رحبت، ذلك اليوم الذي كان ،وهذا اليوم الذي هو الآن ،كانت مسافة الزمن الفاصلة بينهما تصل الى عشربن شهرا بالتمام والكمال !!!


سارت الجنازة على وقع موسيقى عسكرية مؤثرة ومهيبة ، يضفي اليها جلال الموقف وبسالة الجنود على خط الجبهة في منطقة القناة أبعادا انسانية لا يمكن وصفها ولا يدركها الا من عايشها وكابد لحظاتها وعاش أيامها .....المشهد الجليل كما تجسد في تلك اللحظات النادرة في حياة المصريين بدا وقتها في  هتاف الآلآف من البشر وصلت الى عنان السماء تعلن التصميم على خوض الحرب أي كانت التضحيات ، فقد بات " رياض " هو الرمزالحقيقي لفداء القائد لمقاتليه من أبناء وطنه وموته بين جنوده، لقد أصبح الفريق " رياض " الرمز الذي كنا نبحث عنه في ليل دامس ، وتردد في أرجاء الميدان هتافات تمزج بين بطولة الكفاح وعظمة الاستشهاد ، بين " ناصر ورياض"....وما ان تحرك الموكب المهيب الذي لم ترى عيني مثيلا له الأ عند وداع " ناصر " في جنازة سميت بحق " وداع القرن " ،،،،، فقد ذابت الحشود العسكرية من قوات الجيش والأمن المركزي وقوات الحرس الجمهوري بين مئات الآلآف من الناس، فلم تعد عربة المدفع التي تحمل الجثمان الطاهرللفريق " رياض " دون أي حراسة ، كذلك كان وضع الرئيس ،فقد ذاب وسط الجماهير، ولا أدعي أنني أقتربت منه في هذه اللحظة ، بل كنت على بعد أمتار منه ، وفي مقدوري أن أراه وأحدد مشاعر الحزن العميق العميق على محياه !!! كان موقفا رهيبا ومشهدا لايغادر مخيلتي مهما تقادم الزمن وتسارعت السنين ، رأيت يومها عجبا ، فقد أحاطت الجماهير ب" ناصر" ووصلت بينه وبين الجثمان وحافظت حتى على مقتضيات الضيافة ، فقد أبقت من جاء معزيا للرئيس من شخصيات عربية وأجنبية بالقرب من الرئيس ، مشهد بلغ من العظمة مايندر تكراره ، حينها ولا أعرف سببا في كل هذا الزحام والمشاعر الوطنية والانسانية الجياشة ، سوى أن أتذكر صرخة المبدع " عبد الرحمن الشرقاوي " في مسرحية " الفتى مهران" حيث يخاطب " ناصر " رمزا " أهبط الى الناس أجعل منهم قلعتك "  !! ولسان حالي يقول : ومتى غاب عبد الناصرعن الناس حتى يجعل منهم قلعته ياستاذ " عبد الرحمن " ؟ وأعود وأقول لنفسي ربما يقصد هذه اللحظة!!!، أو كأن الله قد كشف عنه الغيب منذ سنوات خلت ، حيث جسدت المسرحية الرائعة على خشبة المسرح القومي عند مطلع الستينيات و"عبد الناصر" في ذرى المجد.. مشاعر متداخلة ومكثفة وسريعة وذات دلالة مبدعة ولامعة لا تتكرر الا في لحظات فاصلة وخاطفة في حياة البشر ،مررت بها آنذاك !! ففي اللحظات التي تعانق فيها الخطر أو تقترب من الموت ، تشرق هذه اللحظة النورانية الآلهية ... كأن الله عز وجل يريد أن يطلع البشر على آخر كشف حساب لهم قبل أن يودعوا الروح لدى بارئها  ؟؟؟



حينها أحسست بالاختناق ، فموجات البشر تكاثفت على نحو خطير لايمكن وصفه ، حتى ان السيد " شعراوي جمعة " سألته بعد هذا اليوم " العظيم/ الحزين" في حياة مصر بنحو خمسة عشرعاما  : أين كنت حضرتك في ذلك اليوم ؟ قال: كنت بجوار الرئيس عند انطلاق الجنازة من مسجد عمر مكرم ، وما هي الا دقائق حتى أحاطت الملايين بالرئيس ولم أستطع أن أواصل تواجدي بجانبه ،يومها سكت السيد " شعراوي جمعة " ماسحا الدمع من عينيه مما أثار دهشتي فأنا أعرف قوة هذه الشخصية ، وتاريخة الكبير في تأسيس جهاز المخابرات العامة المصرية مساعدا للعظيم " زكريا محيي الدين " .. المهم وبعد لحظات من الصمت كأنها الدهر ، أكمل هذا الرجل النبيل الذي لايعرف قيمته الأ من عرفه عن قرب .. قائلا " لم أستطع أن أدخل شارع طلعت حرب حيث سار الموكب الحزين ، ووجدت لا مفرمن أن أتصل بعدد من رجال الداخلية القريبين مني ، بعضهم كان بجانبي والآخر لازال قريبا الى حد ما من الرئيس بالاضافة الى عدد من المعاونين في ديوان الوزارة ، لكي يكثفوا الحراسة حول سيادة الرئيس ،الذين أبلغوني في أول الأمر  أن ذلك أمر مستحيل فقد أحاط به وبالجثمان الآلآف من البشر، ويواصل السيد " شعراويجمعه " حديثه الانساني النادر ، والذي أحمد الله أنني سجلته في حينه ،"  لقد اتخذت قرارا سريعا أحمد الله عليه ، أن تقتصرحركة الجنازة عند ميدان طلعت حرب ، ويتم التوجه الى المسجد القريب من وزارة الأوقاف المصرية والكائن في شارع هدى شعراوي لنقل الجثمان بعربة مدرعة من عربات القوات المسلحة لنقله الى مثواه الأخير ، بدلا من التوجه الى جامع الكيخيا القريب من ميدان العتبة وعلي رأس الشارع المؤدي الى ميدان عابدين ، حيث كان مقررا نهاية موكب الوداع... وبعد لحظات من التأمل والذهاب الى بعيد بعيد والصمت للحظات ، واصل وزير الداخلية العتيد ليقول " حدث مالم أتخيله كنت واقفا في حديقة جامعة الدول العربية الذي جعلت منها غرفة عمليات عاجلة ومكثفة ، وأنا في حالة لاتوصف من الرعب على حياة الرئيس، حالة لم أعيشها من قبل ولا من بعد، فالهواجس والمخاوف تزلزلني !!! ماذا يحدث لو حدث كذا وكذا ، افتراضات كثيرة ومرعبة ، ولولا عون من الله ، أن تمكن أحد لواءت الوزارة الى الوصول  للرئيس عارضا عليه التوقف عند ميدان طلعت حرب ، والخروج من الموكب الحزين ، والعودة به الى منزله ، مفسرا ذلك الاقتراح بصعوبة مواصلة المسير !! يومها ، والكلام للسيد " شعراوي جمعة " أبدى الرئيس غضبا رافضا الاستماع الى هذا المقترح ، بيد أن لواء آخر وكان يعرفه الرئيس شخصيا ، أبلغ سيادته ، أن " الفريق محمد فوزي " القائد العام للقوات المسلحة ، ووزير الداخلية ليس لديهم قوات كافية لحماية الموكب و الوصول الى ميدان العتبة حيث كان مقررا انتهاء المراسم ، واستبدل بدلا منه الجامع القريب من وزارة الأوقاف .... نظر الرئيس الى من يحادثه قائلا : اذن نحن اقتربنا من المسجد الذي تقصدونه ، وفي ضوء ذلك دعوني أرافق " رياض " وأصحبه الى ماتبقى من المسير ، فنحن الآن في ميدان طلعت حرب ، المسافة باتت قريبة ولن يضيركم شيئ اذا تركتموني مع واحد من أشجع وأنبل من انجبتهم مصر !!! أعاد على مسامعي السيد " شعراوي جمعة " ما نقله عدد من مساعديه عن الرئيس . حينها انفجر في بكاء حزين وعميق حتى أنني أسفت على طرحي هذه التساؤولات ، فبادرت بالمسح على يديه ، وأنا لا أعرف هل بكي الرجل القوي على " عبد الناصرأم الفريق رياض أم على وطن كان يعيش في محنة " ولم يزل ...؟؟؟
غدا نواصل : صلاح زكي أحمد ... الدوحة / قطر في 18-1-2013

الخميس، 17 يناير 2013

الحكاية الثالثة - ناصر والفريق رياض " الجزء الأول..

ثلاث حكايات شخصية عن زعيم الأمة العربية 
في ذكرى ميلاد جمال عبد الناصر" الحكاية الثالثة والأخيرة 
- ناصر والفريق رياض " الجزء الأول..

( في تمام الساعة التاسعة صباحا من أحد أيام الثلث الأخير من شهر مارس عام 1969 ، دخلت عالمة الفيزياء الكبيرة المدرج الرئيسي في أحد الكليات العلمية التابعة لجامعة " عين شمس" لتلقي محاضرتها الأسبوعية على طلابها بعد أنقطاع دام أربعة عشر يوما ، وما ان وصلت الدكتورة : زاكية " باب المدرج ، بخطوات قوية واثقة وزي معتاد من الاحتشام لم يتغير لونه الأسود منذ هزيمة يونيو ، حتى ضج الحضورمن الطلاب ، شباب وفتيات ، بهتاف لازال يتردد صداه في اذني حتى الآن " رياض رياض ما متش ، والحرب لسه لسه ما انتهشت " ... كلمات وجدتً معناها في حينها تصميما على رفض الهزيمة من حناجر شباب سرعان ما التحقوا بكتائب الجيش المصري ،مشاركا في حرب الاستنزاف و مستمرا تحت السلاح حتى عبر في حرب اكتوبر 1973 محطما الهزيمة بكل آثارها .. 

الدكتورة العالمة هي " زاكية رياض " والشهيد الذي لم يمت هو الفريق أول " عبد المنعم رياض " والطلاب الذين ازدحم بهم المدرج كنت واحدا منهم ... لكن اللافت للنظر ، أن الدكتورة " زاكية " ما أن انتهى الطلاب من هتاف التحدي والكبرياء ، لم تتفضل بالحديث الا بكلمة واحدة .. " شكرا " ثم دخلت في محاضرتها على الفور ، الجميع كان ينتظر منها كلمة ضافية تحكي عما حدث بعد اشتشهاد شقيقها في ميدان القتال ، خاصة وهي المقيمة معه ، فقد أخلصت في هذه الحياة لمهمتين نبيلتين ، أولهما : العلم ، وثانيهما : الفريق رياض ، بالنسبة للاولى، فقد باتت من علماء الفيزياء الكبار على مستوى العالم ، أما الثانية ، فكانت الشقيقة الحنونة التي أعطت كل الحب والوقت والظروف لكي يكون الفريق رياض هو الفريق رياض،الجنرال الذهبي،عبقري العسكرية العربية طوال القرن العشرين !!! فالرجل لم يغادر ميادين القتال منذ عام تخرجه من الكلية الحربية عام 1938 ، ضابطا ومؤسسا لسلاح الدفاع الجوي في الجيش المصري حتي يوم استشهاده في التاسع من مارس عام 1969 رئيسا لأركان حرب الجيش المصري والأمين العام العسكري لجيوش العرب ، ولذلك مرت السنوات ، سواء عن قصد أو غير قصد ، دون أن يتمكن كلاهما في الزواج وبناء أسرة ، ويبدو ان القدر اتجه الى هذا الاختيار بلا تردد ، فكثيرا كان يتحدث الفريق رياض الى أصدقائه المقربين عن شقيقته بحب ، أما هي فلم تكف عن عشق اسمه حيا أو شهيدأ .


قصر الزعفرانه - جامعة عين شمس 

حينئذ بيًت أمرا كان بالنسبة لي ولبعض زملائي حلما ، فبعد ان انتهت الدكتورة " زاكية " من محاضرتها ، اتجه بعضنا الى مكتبها لنواسيها ، فلم نرى منها سوى صلابة وتحد وتصميم رغم ماحدث ، فكثيرا ماكانت تحادثنا عن شقيقها ، لكن ما فكرت فيه ترددت أن أبوح به في ذلك الوقت ورأيت من الحكمة تأجيله الى الاسبوع القادم ، فبعد أن فرغت من محاضرتها الثانية اثر عودتها للكلية ، ذهبت انا وثلاثة من زملائي اليها ، وبادرتها بعد الاتفاق معهم أن تحقق لنا تلك الأمنية الحلم ...أن نزور شقتها ، شقة الفريق " رياض " ... لم تتردد الدكتورة في الاستجابة للطلب الذي بدا مفاجئا لها ، وقالت بابتسامة حانية خجولة : تريدون أن نذهب سويا الآن أم نأجل الزيارة للاسبوع القادم ؟ ,,,أندفعت أنا بالاجابة ، وقلت على الفور " ياريت حضرتك توافقي على الذهاب معك الآن !!! بدا الأمر مثيرا للدهشة عند زملائي ، لكن عندما فرغنا الى أنفسنا ، شرحت لهم رغبتي التي أقمتها على سببين ، أولها أنني أريد أن أشاهد مكتب الفريق رياض ولازال نفًسه وروحه تحلق في المكان ، اريد أن أشاهد مكتبه كما تركه ، والثاني ، يتعلق بالدكتورة نفسها ، فمشاركاتها العلمية داخل مصر وخارجها كثيرة ولا تحصى وماهو متاح الان ربما لن نراه غدا ...


ذهبنا معها في سيارتها المتواضعة ، ونحن نمني أنفسنا بفخامة المنزل ، كما أفضى بذلك بعض الزملاء، غير أنني كنت أتمنى ان أرى مكتبة تعبر عن فكرهذا "الجنرال الذهبي" ، كما أسماه الماريشال "زوكوف " بطل الحرب العالمية الثانية وقاهر النازي ، عندما درسً له في أكاديمية " فرونزي العسكرية " أعظم معاهد الحرب في الأتحاد السوفيتي والعالم آنذاك ،اذ بعد استشهاد الفريق " رياض" وبأمر من الماريشال زوكوف ، ترك المقعد الذي كان يجلس عليه خلال دراسته فارغا غير مسموح أن يجلس عليه أحد ، ويقال في بداية كل دورة دراسية هنا ،كان يجلس " الفريق رياض، جنرال الحرب الذهبي "... 

عند دخولنا الشقة الكائنة في ضاحية مصر الجديدة والقريبة الى حد ما من منزل الرئيس" جمال عبدالناصر" لاحظت بساطة مدهشة في الأثاث ، ونظافة في المكان ملحوظة رغم زيارتنا المفاجئة فلم يكن هناك ترتيب مسبق ، وبعد واجب ضيافة سريع ، استئذنت الدكتورة " زاكية " مشاهدة مكتب سيادة الفريق ، بادرتني بابتسامة حانية ، قائلة وبكلمات تحمل من عبق العشرة مع الجنرال ما يؤكد عشقها لشقيقها وعمله ، قالت : أعرف أن هذا هو هدفك الاستراتيجي،أما زملائك ليس عندهم سوي هدف تكتيكي لايزيد عن معرفة مكان كان يعيش فيه " رياض" ... لأول مرة أسمعها تقول أسم شقيقها بدون لقبه أو رتبته، غير أنني لاحظت انها نطقتها بلهجة حب الأم تجاه الابن ، فيبدو من حيث المظهر الخارجي أنها الأكبر سنا من شقيقها ... غير أنا دخولنا غرفة المكتب فجر عندي عدة ملاحظات ، فالجدران مغطاة بمكتبة تشغل الحائط الذي على يمين ويسار الجالس على المكتب ، وانتبهت الى تعدد الكتب الأجنبية والمكتوبة بأكثر من لغة مما دفعني الى سؤال الدكتورة عن أي اللغات كان يتحدث سيادة الفريق ، ردت على بلغة العالم المدقق ، لم يكن يابني يتحدث ، ولكن كان يتقن الانجليزية والفرنسية والروسية والالمانية.... وقتها ألهمني روح المكان أن أستذكرأسماء الدكتور لويس عوض وزميله الدكتور مجدي وهبه والدكتور سامي الدروبي علماء الغة ومتقنيها في هذا الزمان ، وقلت لها أكيد هؤلاء الأفذاذ سوف " يحسون بالغيرة من سيادة الفريق " قالت والابتسامة تملأ وجهها رغم عدم دبلوماسية السؤال : أي غيرة يأبني ؟؟؟؟ هم في عالم وهو في عالم !!! لكن خطأي الدبلوماسي أنقدني منه بعض من معرفة دينية ، ورردت على الفور: عالمه بالتأكيد أفضل من عالمهم ، أن سيادة الفريق شهيد عند ربه، والشهداء أحياء يرزقون كما تعلمين حضرتك... غير أنني ذهلت باجابتها ، اذ قالت على الفور كلامك صحيح حتى اللحظة ، لكن ماذا يدريك أن يكونوا شهداء غدا أوبعد ذلك بشهور أو سنوات ، فالغارت الجوية للعدو تقتل حتى الأطفال والعمال ،،،في هذه الحالة الفريق "رياض" لايملك أمتيازا فكلهم عند ربهم سواء باذن الله ... أحد زملائي أراد أن " يتذاكى " وقال بلغة خشنة " بعضهم لن يرى الجنة اطلاقا ،فمنهم اثنين من الأقباط ... ولا أعرف أي دين للثالث الذي ذكره زميلي " ، وكان يقصد الدكتور سامي الدروبي ... لحظتها نظرت الدكتورة اليُ ، وكأنها لم تسمع ما قاله زميلي ،وقالت : ألم يلفت نظرك يا " صلاح " كتاب : في الحرب للجنرال الالماني ،أقصد البروسي " كارل فون كلاوزفتز" بأجزائه الثلاثة ، والموجود امامك في الرف الثالث !!! لقد تحدثت مع الفريق ، وذكرت له أسمك قائلة له : أنك قرأت هذه المجلدات ، وبعد ان أبدى " رياض " دهشته لقدرة طالب على هضم ماكتبه " كلاوزفينز" وهو من أصعب وأعقد الكتب العسكرية ، ذكرت له طريقتك في القراءة التي سبق أن شرحتها لي،فأبدى اعجابه بعد ان أبدى اندهاشه ... الرسالة كانت واضحة لزميلي، اما زميليُ الآخرين فقد لزما الصمت ولم يعلقا رغم مظاهر الغضب..... الا أن ملاحظتها المشجعة دفعتني الى الاشارة الى وجود كتاب " قائد البانز للجنرال الألماني الفذ ، هاينز جودريان ، زميل روميل في قيادة جيوش الحرب الالمانية خلال الحرب العالمية الثانية ، ففوجئت بتأمينها على ذلك ، ووجدتها تقول: " جودريان : هو مؤسس سلاح المدرعات الألماني بقدر ماكان ،روميل ثعلب الصحراء بحق "وواصلت الكلام ..المدرسة العسكرية الألمانية كان " رياض " معجبا بها أشد الأعجاب ، غير انه كان يقول أن كعب " أخيل " في تلك المدرسة يكمن في غياب الاستراتيجية ، فقادة الحرب الألمان أذكى كثيرا من قادتهم السياسين ، وعند أقتراب الحرب من نهايتها أدرك العسكريون فداحة جريمة الساسة حيث حاولوا انقاذ وطنهم ،لكن الوقت كان قد فات فقد حاول "روميل " أغتيال هتلر خلال اجتماع مشترك يضم قادة الحرب ، لكن المحاولة فشلت ، ودفع روميل الثمن ، فقد أعدم ...!!!

عند هذا الشرح البديع لقضايا الحرب على لسان عالمة في الفيزياء ، قلت لها حضرتك استاذة في الاستراتيجية بقدر علمك الواسع في تخصصك ... ابتسمت ، وقالت في كلمة ختامية ، كنت أتمنى أن تكون هذه الزيارة في وجود سيادة الفريق ، ومما أسعدني أن كانت كلمات تلك الأمنية موجهه اليُ ، الأمر الذي دفعني بحالة من الذكاء الفطري للفلاحين من أمثالي أن أقول لها " كان نفسي أن يحدث ذلك "...!!! بادرتني بما أذهلني ... عندما حدثته عنك وبعد رؤيتي لما كتبت ، أبدى الرغبة نفسها ، فلا تنسى أنه هو والفريق " محمد فوزي " قد أعادا بناء الجيش على أكتاف أمثالك أنت وزملائك...
خرجنا جميعا من غرفة الجنرال الذهبي ، لكن لاحظت ولاحظ زملائي ، أن "الدكتورة" أغلقت الغرفة على نفسها اثر خروجنا ، ومكثتً بها بضع دقائق ، ثم خرًجت وملامح الحزن على ملامحها، فبادرتها بالقول " لقد قرأنا الفاتحة على الروح الطاهرة لسيادة الفريق الآن "....ردت بكلمات تعبق بالايمان ... قصدك " عبد المنعم رياض" ...!! في اشارة الى أن الجميع أمام الله سواء ،بغير سلطان أو جاه او مال ...ثم نظرت الينا جميعا وقالت : وأنا فعلت كما فعلتوا بالضبط ، لقد قرأت الفاتحة على روحه الطاهرة ، ولا أبدأ يومي الأ بقراءة ما تيسر من كتاب الله هبة الي روحه... ثم أشارت الى مكتبه هنا أقرأ ، ولكن لا أسمح لنفسي أن أجلس على مكتبه ، حينها تذكرت كلمات جنرال الحرب الأسطوري " زوكوف " .... " على مقعد الجنرال "رياض "لا ينبغي أن يجلس أحد "...!!



صلاح زكي أحمد - 17-1- 2013 ... الدوحة / قطر



الأربعاء، 16 يناير 2013

ثلاث حكايات شخصية عن زعيم الأمة العربية - الحكايه الثانية

ثلاث حكايات شخصية عن زعيم الأمة العربية :

الحكاية الثانيه - جيفارا و ناصر
( في واحد من أيام شهر فبراير من عام 1965 ، وعند ساعة تقترب من ساعات الظهر ، وصل القطار القادم من الزقازيق الذي كان يحمل المئات وأنا منهم ، كانت المرحلة الثانوية من التعليم العام هي سنوات دراستي،وحيث بدأت أيام عطلة نصف العام في هذا الشهر،لم يعد البقاء بين أحياء ومكتبات مدينتي مبررا لقضاء أجازتي بها،فالقاهرة بها سور الأزبكية حيث آلاف الكتب باسعار زهيدة تسد رمق عطشي للمعرفة ، وينبغي كذلك اقتطاع جزء من مصروفي المحدود لمشاهدة المسرح وعروض السينما حيث كانت وقتها القاهرة مدينة الجن والملائكة ، على حد تعبير عظيمنا الدكتور " طه حسين في وصفه ل" باريس " مدينة النور ...




المهم وقبل خروجنا من "محطة مصر" محطة قطارات القاهرة الرئيسية التي لم أرى مثيلا لجمالها الا في لندن ، محطة الملكة فيكتوريا ، أن منع عدد كبير من ركاب قطار الزقازيق وغيره من الخروج ، فقد وجدنا انتشارا أمنيا كثيفا في الساحة الداخلية من المحطة العريقة ، وفجأء دخل من الباب الرئيسي الرئيس " جمال عبد الناصر " وبصحبته رجل أقل من الرئيس طولا ، يرتدي بزة عسكرية ، ويحمل وجهه البهي لحية خفيفة تعبرعن عدم الاهتمام بالمعاني المباشرة للاناقة أو جمال الهيئة ، بل بالانهماك والانشغال فيما هو أهم ، العمل الثوري ، لم يكن عصيا عليٌ أو على الكثيرين معرفة الشخص المصاحب للرئيس ، كان ببساطة ، المناضل الثوري " أرنستو تشي جيفارا " الذي أفردت الصحف المصرية خبر زيارته للقاهرة والالتقاء بالرئيس " عبد الناصر " ... وكان لافتا أن الزيارة أمتدت لأكثر من أسبوعين ، تخللتها سفرات ل " جيفارا " لعدد من الدول الأفريقية ، عرف فيما بعد أن من بينها الكونجو حيث كانت تشتعل حرب تحريرضد الحكم الذي خلف المناضل الأفريقي الكبير " باتريس لومومبا " والذي مات مقتولا ومثل بجثمانه بأيدي الحكام الجدد ....


الساحة الكبيرة داخل المحطة العريقة ضجت بالهتاف من الآلآف بحياة " ناصر " وضيفه القادم من كوبا رفيق الرئيس " فيديل كاسترو" والمشارك في ثورته وهو الأرجنتيني الأصل ... كان الرئيس يصطحب الضيف الى مدينة شبين الكوم بمحافظة المنوفية لافتتاح مصنع جديد للغزل والنسيج يعمل به آلاف العمال .... المشهد كان مذهلا ، فقد أحاطت الجماهير بالرئيس وضيفه الذي بدت عليه الدهشة من تكسر الحواجز الأمنية التي كانت تحيط ب " ناصر " والذي كان يبادلهم التحية والسلام ... يومها كنت محظوظا ، او بالدقة نصف محظوظ ، فقد اكتفيت بالرؤية ولم أحظى بالسلام...غير أنني سرحت بعيدا بعيدا عن صخب الاستقبال الاسطوري لرجل كان أسطورة الفقراء والأحرار في عصره ، وكان ملهما للثورة الكوبية من ضمن عشرات الثورات التي ساندها ، حيث أبلغه زعيمها " فيديل كاسترو " عندما التقاه في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للامم المتحدة في عام 1960 ... قال له " فخامة الرئيس ناصر ، لقد كنت باعثا للروح في ثورتنا ومثلا يحتذى لنجاحها ، فلم ننسى صمود شعبكم في معركة السويس خلال معركة 1956 ، عندما كنا نصاب بالالم أو الانتكاس نقول : أمامنا مصر وناصر، لقد انتصرا بالارادة والتصميم على أعداء أكبر منهم عددا وتسليحا " 
ذهبت بالخيال أو قل بمشاعر الحلم ونسيج التمني الى حيث دارت حوارات رائعة وممتعة بين الرئيس وضيفه ، حول الثورة والاشتراكية وحركات التحرر الوطني والتنمية والحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي وحرب فيتنام والثورة الثقافية في الصين وغيرها وغيرها ، عالم أصبح أقرب الى الخيال ، كان زمنا غير الزمن ، وكان أملا غير كل الآمال !!! 



عندما التقى عبد الناصر ب " جيفارا " بادره بالسؤال عن حالته الشخصية ، اذ لاحظ الرئيس ملامح الحزن تكتسي وجه الثائر القادم من بعيد ...قال له " تشي أرى وجهك حزينا ، ماذا بك ؟ بعد صمت لم يطل واثر نفس عميق يسمى في لغة الضاد ، تنفس الصعداء ، تحدث جيفارا بلا حواجز، فقد قصد القاهرة ليحادث زعيمها في أمر بدا شديد الخصوصية ، قال له : تعرف انني وزير التجارة والصناعة في الحكومة الكوبية ، لقد فشلت في عملي التنفيذي لا لسبب معين ، انا لا أصلح الا للثورة ، أشعل الثورة هنا وهناك ضد الاستعمار حيث يكون . ولذلك فقد تركت استقالتي للرفيق كاسترو وجئت كي أسمع مشورتك ... توقف عن الكلام ، وهيأ نفسه للاستماع !! ابتسم الرئيس ، وبعد أن تفحص وجهه مليا ، وبدت ملامح الراحة تعود الى قسماته ، قال له : قصدك ياتشي أنك اصطدمت مع البيروقراطية في الدولة الكوبية ، أنت لم تفشل ياصديقي ، لقد قرأت كل أعمال ماركس ولينين وماو تسي تونج ، باختصار قرأت أغلب الأدبيات الماركسية لم أجد فيها جوابا شافيا لتلك المعضلة التي تتعلق بين الثورة والدولة ، فالثوار يتسلمون جهاز الدولة واغلب كوادره الفنية من بيروقراطية العهد القديم ... !! مشكلة كما تري ليست بالبسيطة ، وواصل " ناصر "حديثة قائلا " أنت كما تتمنى وغيرك وأنا " نريد الدولة لتكون في خدمة الثورة "... سكت الرئيس ليستمع لرد " جيفارا " الذي أسرع بالرد نعم ياسيادة الرئيس ، لكن الرئيس بادره بالقول ، أنت ياعزيزي لا زلت رومانسيا ، الثورة ساعة أما الدولة فهي حتى قيام الساعة ؟؟ بدت كلمات " ناصر " استلهاما لتراث عريق من الفكر الاسلامي . وحتى لايترك ضيفه في حيرة ، واصل الحديث بعد توقف قصير ، الثورة يا" تشي " هي أقرب الى فترة الخطوبة في حياتنا ، جميلة للغاية ، لكنها تنتهي بعد حفلة الزفاف ، بعد هذه الحفلة دخلت في الجد ، عليك استكمال تأسيس البيت بكل ماهو ضروري،والبحث عن عمل للزوجة اذا لم يكن لها عمل ، ثم الأولاد ومدارسهم والسهر عليهم تعليما وتثقيفا وتربية ، ثم فضلا عن ذلك مواجهة مشكلات طارئة لم تكن في الحسبان ... عندها سكت " جيفارا " وذهب بعيدا بعيدا ، ولم يتركه " ناصر" في حالته الانسانية تلك كثيرا ، بل بادره بالقول : ان مسئولية الدولة أعظم وأقوى من مخاطرة القيام بالثورة ، فالثوار ربما ينجحون وربما يفشلون وفي الحالتين المسئولية شخصية لأصحابها دون ترك أي أثرعلى الآخرين ، والاخرين هنا هم عموم الناس ، أي الشعب ... رد " جيفارا " بسرعة ، وكان رده أقرب الى طلب ...قال " سيادة الرئيس . عرفت أنك ذاهب غدا الى أفتتاح مصنع جديد في مدينة قريبة من القاهرة ، هل بمقدوري أن أذهب معك ؟؟ ابتسم الرئيس ، بل ارتفعت ابتسامته الى حد الضحك المسموع..... " جيفارا " اذا لم تطلب مني هذا الطلب، كنت رجوت أن تأتي معي ... صديقي أهلا وسهلا بك ، قالها بالعربية أولا ، ثم اتبعها بالانجليزية .


في اليوم التالي كان عبدالناصر وجيفارا في "محطة مصر" حيث أكرمني الله برؤيتهما ، كانا في طريقهما الى " شبين الكوم " وهناك كان الاستقبال اسطوريا ، حيث توافقت الزيارة مع حملات انتخابية للرئيس ، لفترة رئاسية جديدة ، وفي وقت ترددت فيه شائعات قوية عن ترك " ناصر" موقعه الرئاسي لكي يقود التنظيم السياسي الوحيد في البلاد ويتفرغ لبنائه ، ولذلك اكتسب الاستقبال هذه الحالة الكبيرة من الحفاوة ، فالشعب لا يتصور " ناصر" بعيدا عن موقعه الرئاسي ... حينها وجد " جيفارا " ضالته في الجماهير التي أحاطت بسيارة الرئيس وضيفه ، قائلا للرئيس وملامح الفخر والفرح على وجهه ، هذه هي الثورة ياسيدي ، لكن " ناصر" بادره بالقول " تشي هذه الحفاوة ليس مبعثها حبا لشخصي ، ولكن سببها أنني قررت بناء هذا .. وأشار الى المصنع الجديد ، الناس لا يجدون من الثورة نفعا ،دون أن تقدم الدولة مثل هذا ، عشرات المصانع والمزارع ومئات المدارس والمستشفيات ، الثورة تنمية وتطور ... سكت جيفارا ، وبدأ المؤتمر الجماهيري الذي كان فيه الآلآف يستمعمون ويهتفون ، خطب " تشي ، وقال كلمات ترجمت فورا على الجمع ، قائلا كلمات أراد أن تكون قليلة ومعبرة   " أصدقائي ، أيها الرفاق ، هل  تسمحوا لي أن أضم صوتي الى صوتكم في انتخاب الرئيس ناصر ؟؟هتف الجمع بصوت عال وهادر .. نعم ياجيفارا !!!




عند العودة الى القاهرة ، وملامح الارتياح بدت على كل الوجوه ، تحدث تشي وكان الحضور في صالون الرئاسة في قطار الرئيس،على أعلى درجة من الاهتمام .. قال جيفارا وبشكل مفاجئ ومخالف لكل التوقعات ... سيدي الرئيس ،ان قصة التحول في حياة أي انسان تحل في اللحظة التي يقرر فيها الانسان الموت، فاذا قرر أن يجابه الموت يكون في هذه الحالة بطلا سواء نجح ام فشل !!! وبعد ان استوعب عبد الناصر ملامح الدهشة على الحضور من زملائه قال كلمات من ذهب ( تشي... لاحظت عليك أنك تتحدث كثيرا خلال زيارتك الحالية عن الموت ؟؟!! ان علينا ياصديقي أن نموت من أجل الثورة اذا كان ذلك ضروريا ، ولكن من الأفضل بكثير أن نعيش من أجلها ) 




مرً القليل من الأعوام على هذا الحوار النادر، ومات " جيفارا " في أحراش وغابات بوليفيا في ثورة لم تتوفر لها أي قدر من عوامل النجاح ، فقد بات الرجل منذ قتله غدرا وخسة في نوفمير 1967 رمزا للثورة ، حيث اختار الموت ليكون بطلا بصرف النظر عن النجاح والفشل... يومها بلغ الحزن مبلغه في القاهرة ، حيث تذكر عبد الناصر حوارته مع هذا النبيل الجميل ، غير أن المحيطين ب" جيفارا " أشاروا الى أنه قد أبلغهم خلال رحلة العودة الى كوبا " بأنه لم يسمع من أي ثائر ماسمعه من عبد الناصر، فقد نقلني" ناصر " برفق من حلم الرومانسية الى خشونة الواقع ، لقد نقلني من فترة الخطوبة الحالمة والرومانسية الجميلة الى أعباء الحياة الزوجية ومتاعب الاولاد . اذا كنت أنا وغيري نمثل الثورة ف" ناصر" هو الدولة والثورة معا ... ومثله في التاريخ قليل ونادر "


صلاح زكي أحمد ... الدوحة 16- 1-2013

الثلاثاء، 15 يناير 2013

ثلاث حكايات شخصية عن زعيم الأمة العربية



الحكاية الاولى

في الصباح الباكر من شهر ديسمبر عام 1963، تجمع عشرات الآلاف من الناس على رصيف محطة السكك الحديدية لمدينتي، مدينة الزقازيق، والتي تقع على الطريق الواصل بين القاهرة ومدينة بورسعيد.

 أعداد كبيرة من تلاميذ مدرسة النجاح الاعدادية كانوا من بين الحضور وكنت واحدا منهم، حيث كان كلٌ منا يمسك علم البلاد وصورة رئيس البلاد. الكل كان ينتظر القادم الكبير، وكل منا يمني نفسه بملامسة يده أو حتى رؤيته من بعيد. ويبدو ان هذا الاحتمال هو الأقرب. فجأة بدت حركة غير عادية في المحطة، فقد ظهر من بعيد قطار يسحب ورائه القليل من العربات المميزة وعليها علم كبير للجمهورية العربية المتحدة والمكون من اللون الاحمر والأبيض والأسود، ويتوسط مساحته البيضاء نجمتين لونهما أخضر، ترمز احداهما لمصر، الاقليم الجنوبي، والثانية لسوريا، الاقليم الشمالي. كان الزمن وقتها هو الثالث والعشرين من ديسمبر من عام 1963. أي بعد عامين من وقوع الانفصال الغادر الذي أطاح بأمل أول وحدة عربية في التاريخ الحديث في 28 سبتمبر من العام 1961 ، وانفصال سوريا عن مصر. مشهد هذا العلم العزيز الى قلبي أفاض علي بتلك المعلومات التي أصبحت الآن بقايا ذكريات. كنت اتحدث مع زملائي وأستفيض في الشرح نزولا على رغبة الزملاء ، فأنا " المتابع الحصيف " لمقالات الاستاذ " هيكل " وزميله الاستاذ " احمد بهاء الدين "! فجأة وانا مندمج في الشرح والتفسير انطلقت عاصفة من الهتاف والفرح والذهول. فقد وصل القطار الذي يقله الرئيس " جمال عبد الناصر " بعد دقائق من مرور القطار الأول الذي عرفنا أن أسمه " قطار المقدمة " ومهمته تأمين الطريق الحديدي لقطار الرئاسة حتى مدينة بورسعيد ، محطة الوصول.

المناسبة كانت توجه الرئيس الى المدينة الباسلة ليشارك أهلها الاحتفالات السنوية بعيد النصر على دول العدوان الثلاثي " بريطانيا وفرنسا واسرائيل " في عام 1956 ، ومن أجل الوصول الى بورسيعد كان عليه أن يمر على الزقازيق. في تلك اللحظة شمل الجميع حالة لاتوصف من الحب الصوفي الذي يصل الى حد أن تنسى كل ما يحيط بك من أجل اقتناص لحظة رؤية الزعيم الذي كنا نعيش ونحلم برؤيته ، فهو الأمل والرجاء والآمان. هو فعلا ذلك الحلم الذي لم ينقطع رغم سنوات الغياب. كان يتوسط عربات القطار الذي يسير بطيئا بطيئا ، عربة مميزة ، وبدا مطلا من شرفتها رافعا كلتا يديه محييا محبيه ، وبجواره شاب صغير السن عرف باسم " الملك الحسن الثاني" ملك المغرب الشقيقة والذي تولى الحكم في بلاده غداة وفاة أبيه الملك " محمد الخامس " في ظروف غامضة أحاطت باجراء عملية جراحية بسيطة في " اللوز" للملك الراحل النبيل. المهم لم ير أحد سوى الرئيس ولم تتوجه الأنظار الا للرجل الذي تعلقت به الأحلام ، وفجأة بدأ القطار في زيادة سرعته والخروج خارج المحطة ، والرئيس يواصل التحية , وبشكل عفوي ولا ارادي نزل الآلاف من الطلاب والشباب من رصيف المحطة ملازمين القطار في حركته ، مركزين النظر الى الرئيس في حركة انسانية نادرة ، كلما تذكرتها امتلأت العيون بالدمع ، واهتزت المشاعر بالمحبة ، فقد أحسست حينها وسمعت بكل نقاء زمن البراءة والطفولة والنقاء كلمات " جمال عبد الناصر" ( خلاص يأولاد روحوا ، خلاص روحوا ، متشكرين متشكرين ، ابعدوا عن القطر ... خلاص (

أسرع القطار ولم يعد في مقدور أحد ملاحقة الأمل الذاهب الى بعيد. عدنا والجميع يحكي بفخر " شفت الريس قال لي ابعد عن القطر " الجميع يحكي نفس الكلمات ، والجميع يفاخر بان الرئيس كان يحادثه شخصيا. غير ان الجميع لم يدرك أن من لهفة المحبة والعشق والذوبان في الرجل الذي بشر به " توفيق الحكيم " في رائعته " عودة الروح "، أن الجميع لم يدرك أن أحذيتهم البسيطة تمزقت من عنف السرعة والجري على أرض مليئة بالزجاج والزلط والأشواك الملاصقة لخط القطار ، والأغرب أن الدم بدأ ينزف من أقدام الطفولة الغضة ، ونحن رغم ذلك نبتسم ونضحك ونفخر.

الاثنين، 14 يناير 2013

لماذا في البلكونة؟



البلكونة في الحياة المصرية والعربية لها أكثر من حكاية ، لأن لها أكثر من اسم. فهي في اللغة العربية تسمى "الشرفة"، وفي اللغة الفرنسية تسمى "فارندة" وفي التركية يطلق عليها "التراسينة" أما في لغة "شكسبير" فتعرف باسم "البلكونة" وهي الأكثر شيوعا وانتشارا في مصر ، وربما في الوطن العربي.
غير أن الشرفة أو البلكونة ، تحتل في العائلة المصرية موقعا أثيراً ومؤثراً، فكلنا نرى في البلكونة مصدراً لأخبار أهل الشارع والقرب من أحوال "أولاد حارتنا"، وذلك عندما تكون المنازل في حالة من التقارب بل والالتصاق، عندها يكون الخبر الواحد في البيت الواحد هو الموضوع المفضل عند كل البيوت، وتتعدد الحكايات والروايات. فكل من في الحارة يتحدث عما سمعه وربما عما رآه من زاوية العلاقة بين المنزل أو البلكونة مصدر الخبر. فالشامت يراها من زاويته، مبعثاً للبهجة والفرح، والعياذ بالله. والمتضامن يتعاطف بالكلمة او "مصمصة الشفاه"! ، أم ابن الأصول والشهم فهو يهب للنجدة ولهفة المستغيث.
البلكونة لها حكايات لا تنتهي. فكلنا نذكر وقوف عائلة الريس "عبد الواحد الجنايني" والد "علي"، الضابط في حركة الضباط الأحرار وشقيقه "حسين" الضابط في الشرطة، وذلك في فيلم "رد قلبي" المأخوذ عن رائعة "يوسف السباعي" التي تحمل نفس الاسم. عندما سمعوا هتاف الجماهير مهللة ومرحبة وفرحة ومبتهجة بنجاح ثورة يوليو 1952. يومها هتف الجميع للثورة، ولم يدرك الأبناء الذين ازدحمت بهم البلكونة ، أن الأب عم "عبد الواحد" الجنايني يهتف مع الهاتفين بحياة الثورة والضباط الأحرار، فالفرحة أنطقت الرجل الذي أخرسته اهانة الباشا "الأمير كمال"، شارك فيها بوقاحة نجله "الأمير علاء الدين" له عندما تجرأ في طلب يد ابنته "انجي" عروسا لابنه "علي" الضابط في الجيش، فقد رفض طلب الجنايني، بل حمل طلبه بعاصفة من الاهانات والشتائم، أفقدت الرجل البسيط المكافح القدرة على الحركة والنطق. باختصار اصيب الرجل بالشلل لأنه تصور أن الناس سواسية, ولا فرق بين عربي وأعجمي ولا أبيض وأسود ولا غني وفقير الا بالعمل الصالح والتقوى.
  "الريس عبد الواحد" استرد عافيته عندما استرد شعبه كرامته واستعاد وطنه عزته، عندما رفع المصري رأسه عاليا عندما نجح في اسقاط الاستعباد. البلكونة في تلك اللحظة دخلها أفراد لمعرفة آخر الاخبار، خرج منها نفس الأفراد وهم في حالة مختلفة تماما. فقد دخلوا والهم والغم يشملهم جميعا، ورب العائلة نصف ميت، نصف حي، وخرجوا فرحين مستبشرين بغد جديد، ورب الأسرة المسجل في عداد المفقودين معنويا ونفسيا يستعيد لياقته الصحية والانسانية.


البلكونة في حياتي لها نفس الأهمية التي عند أغلب المصريين، فالمناخ المعتدل، وسطوع الشمس طوال اليوم واستمرار دفئها حتي في أيام الشتاء، جميعها عوامل مساعدة لعشق البلكونة و التعايش معها. فقد مرت البلكونة بذكريات جميلة وطيبة في مراحل مختلفة من سنوات العمر. ففي أيام الصبا كانت موضعا لقراءة المقال الاسبوعي "بصراحة " للاستاذ محمد حسنين هيكل والاستمتاع بـ"أيام لها تاريخ" للاستاذ أحمد بهاء الدين، فضلا عن العباقرة جمال حمدان وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ولويس عوض وحسين فوزي وعائشة عبد الرحمن وغيرهم كثير.
تعددت الأماكن واختلفت "البلكونات" حتى أكرمني الله بـ"بلكونتي" الحالية الأثيرة الى قلبي. فطولها يبلغ من الأمتار سبع، أما عرضها فيصل الى اثنين، وتطل على حديقة بديعة، وترتفع عن أرض الشارع بثلاثة أدوار، والمنطقة بأكملها يلفها الهدوء الذي كان ينعم بها سكان "معمورة الاسكندرية" زمان. ربما هذه الأسباب هي التي أدت الى أن أقرر تحويل هذه البلكونة الى مكتبة تحتوي على مئات الكتب. بعدها باتت الجلسة في البلكونة مع تلك الصحبة من مفكرين وأدباء وعباقرة لا تعادلها صحبة. بل إنني إمعاناً في الاحترام والمحبة لا أدخلها إلا وقد ارتديت ما ارتديه عندما أتوجه لزيارة صديق عزيز.
وعند انتهائي من تلك "الزيارة" المفترضة، أعود الى حياتي المعتادة من مأكل ومشرب والاستماع الى نشرة الأخبار والبرامج الحوارية ، حيث يسود الكثير منها : صخب غير منتج بل ومؤذي!
هذه هي البلكونة التي أعشق فيها ومعها الحياة. أقول ذلك وأنا على أعتاب مرحلة جديدة من العمل، لا أجد لها عنوانا أفضل من كلمة: الحرية. الحرية في القراءة والاطلاع والكتابة فيما أحب وأهوى، مرحلة أتمنى من الله العلي القدير أن يوفقني لإتمام ما بدأته على صعيد الفكر والثقافة والسياسة والتأليف. فوفق ما قاله عمنا "صلاح جاهين": اللي ألف مامتش.