( صور متفرقة عن الدكتور اسامة الباز في يوم الرحيل )
الصورة الثالثة :
"..... في قاعة الاجتماعات الرئيسية في مبنى اللجنة المركزية لمنظمة الشباب ، وهو بالمناسبة قصر الأمير عمر طوسون ، احد أبناء وأحفاد محمد على باشا ، ويشغله الآن المجلس الأعلى للثقافة .... في هذه القاعة وتحديدا في يوم ٢١ أكتوبر عام ١٩٧٣ ولم تضع بعد حرب أكتوبر نهاية فاصلة لأحداثها ، وقف الدكتور " عبد الواحد بصيلة " عميد كلية طب الأزهر ، وقتها ومساعد الأمين العام للشباب ، أي الشخصية الثانية هو والدكتور صبحي عبد الحكيم أستاذ الجغرافيا الشهير بعد الأمين العام للشباب الدكتور كمال أبو المجد .... وقف مخاطبا أمناء الشباب بكل محافظات مصر ليخبرهم عن وقائع الحرب الدائرة مع العدو الإسرائيلي والتي بدأت ظهر يوم السبت السادس من اكتوبر من عام ٧٣ .... غير ان الدكتور " عبد الواحد " الضليع في تخصصه ، بوصفه أستاذ مادة ال " هيستولوجي " أي علم الأنسجة ، لم يكن خبيرا في عالم السياسة ولا مناوراتها ودقائقها ... كان رجلا مهنيا بامتياز ، وكان نقيا طيبا إلى ابعد حد ...
المهم تحدث الدكتور " عبد الواحد " وليته لم يتحدث !!!! فقد قال كلمات لا تبعث إلى أي شيئ سوى الياس وبث روح الهزيمة ، وهو المفروض ووفق تكليف الدكتور أبو المجد ، يرفع همم مسئولي الشباب لا تشييعهم إلى محافظاتهم بروح الهزيمة .... صورة لا أنساها طوال عمري ، ودرس في معنى ودور الرجل السياسي ، فيمكن ان تكون خبيرا في علمك وتخصصك ، ولكن لا تصلح ان تكون سياسيا أو قائدا جماهيريا ..... حينها كنت جالسا بالقرب من الدكتور " اسامة الباز" ، ولم يكن يفصلني عنه سوى الدكتور " إيهاب إسماعيل " أستاذ القانون المرموق واحد أعمدة كلية الحقوق جامعة القاهرة ، وكان للعجب يغط في نوم عميق لأسباب لا يعلمها سوى الله ....غير ان كلمات الدكتور " عبد الواحد" قلبت المشهد في قاعة الاجتماعات رأسا على عقب ، فقد هب الدكتور اسامة واقفا ، يستأذن الدكتور عبد الواحد في الكلام . وبحسن نية ونقاء الرجل الذي أوردنا موارد التهلكة ؟؟!!! أخذ الدكتور اسامة الكلمة ، غير انه طلب من احد الموظفين وأظن ان اسمه " البهنساوي " ان يذهب ويأتي بعدد من اللوحات والخرائط العسكرية من سيارة وزارة الخارجية العتيقة التي يلجأ إليها الدكتور اسامة أحيانا عندما يكون الموقف جلل أو كانت المواصلات العامة من العسير استخدامها ....؟؟؟!!!! جاء " البهنساوي " بالخرائط وهو مكروش النفس ومنقطع الأنفاس ، ووجه كما يقولون " يبك الدم " الذي هو أصلا كان شديد الحمرة في الحالة العادية ....." موقف مولودرامي " بامتياز ، ولا تعرف هل يبعث على الضحك أم البكاء والخوف في ضوء ما أبلغنا بيه الدكتور عبد الواحد ....
تحدث الدكتور اسامة ، وكان موجودا في داخل القاعة ، ولا اعرف لحسن الحظ أو لسوءه عدد من مراسلي الصحف الأجانب .... وبلغة عربية سليمة وبذكاء نادر ، ورقة غير عادية تفضل الدكتور اسامة ، فمسح بكلام الدكتور عبد الواحد الأرض ، دون ان يشعر الحضور بذلك ، وبغير إساءة لزميله الكبير ....
كان الحديث وقتها عن نجاح جنرال الحرب الإسرائيلي " شارون " في أحداث ثغرة في صفوف الجيش الثالث الميداني واتجاه قواته لاحتلال السويس .... وبالشرح التفصيلي ، كانت كلمات الدكتور اسامة ، وبالإشارة إلى الخرائط التي حملها من القيادة العامة أو الخارجية المصرية ، لا اعرف مصدرها تحديدا ، قال الدكتور اسامة ، " ان أوضاع القوات على الأرض لا تمكن شارون من تحقيق مخططه .... ولأول مرة اسمع تعبير " ان ما يفعله شارون هو حركة تلفزيونية لا يقصد منها سوى " الشو الإعلامي " ،.... فالجيش الثاني يحكم السيطرة على كباري العبور ويتمسك بكل قواه ويضغط الآن بقوات الصاعقة وبقيادة قائدها العميد نبيل شكري على خط الإمداد الإسرائيلي القادم من الشرق....!!!! فضلا عن تمسك الجيش الثالث الميداني بكامل قواته في الضفة الشرقية للقناة وملاحقة قوات شارون بالمدفعية الثقيلة والصواريخ وآلصاعقة من جهة الشرق ..
.. وبعد ان يتوقف الدكتور اسامة عن الحديث بالعربية يتوجه إلى المراسلين الأجانب لينقل بالانجليزية ما قاله ،بالعربية يعود وببراعة مطلقة إلى الخرائط التي جاء بها ليستكمل الشرح ..... كنت حينها أتابع كل كلمة يقولها الدكتور اسامة وباهتمام شديد لأسباب نفسية وعملية ، فقد كنت وقتها مهتم إلى حد الجنون بدراسة الفكر الاستراتيجي بمدارسه المختلفة ، ابتداء من عميدهم الصيني ( سان تزو والبروسي أي الألماني كلاوزفيتز وحتى الفرنسي أندريه بوفر ) فضلا أنني كنت مكلفا انا واحد الزملاء بإصدار نشرة يومية تحمل وقائع الحرب وتوزع جماهيريا على كل أفراد الشعب اسمها ( الشباب والمعركة ) كان حديث الدكتور اسامة مادة خصبة وغزيرة تفيد في ما نقدمه من معلومات .....
في داخل القاعة بدا المشهد مختلفا ، فقد مسحت وجوه الحضور لإقراء ملامح الوجه وما تحمله من تعبير ..... الجميع في حالة من الانتباه النادر ... والجميع كان يسجل ما يسمعه بكل اهتمام ..... حتى الدكتور " إيهاب إسماعيل " استيقظ من سباته العميق ، وتحت تأثير صدمة الاستيقاظ وعدم وصوله إلى مرحلة الوعي الكامل ، كان بين الوقت والآخر يسألني " هو اسامة بيقول إيه ؟؟؟؟" واجيبه بصوت خافت وكلمات مقتضبة حتى لا تفوتني كلمة من حديث الدكتور اسامة .واقول له " كان بيقول كذا وكذا " ولا أطيل ... أما الدكتور اسامة ، لم يبخل هو من جانبه بتوجيه نظرات سريعه إلى حيث اجلس ويقول بذكائه الحاد مستخدما احد لوازمه في الكلام قائلا في ختام معلومة وردت في حديثه " ..... مش كده ولا إيه يا صلاح ؟؟؟؟..... كنت اعرف ان الملاحظة لم اكن المستهدف منها ، ولكن زميله الكبير الآخر الدكتور إيهاب إسماعيل هو المقصود .... أما الدكتور عبد الواحد ذلك الفلاح الطيب ، وللحق يقال ... كان أكثر الحضور اهتماما وتسجيلا لما يقوله الدكتور اسامة .... لم تأخذه الغيرة أو حتى خطا كلامه إلى الخروج من القاعة بدعوى وجود تليفون عاجل أو ما شبه ، بل لاحظت رفضه لهمس الأستاذ البهنساوي في أذنه بالخروج لأمر هام ........ ويقول له بصوت مسموع " ياخي قول للسكرتارية . انا مش ها رد على أي تليفون إلا إذا جاء من الرئيس السادات ..... ثم يدرك أنها واسعة شوية حكاية الرئيس السادات فيقول مستدركا " يا بهنساوي اقصد أي تليفون من الدكتور أبو المجد ، انا عارف انه عند الرئيس دلوقتي !!!!؟؟؟؟ ......
وهكذا امتلك الدكتور اسامة ناصية قلوب وعقول واهتمام الحضور ، العرب والعجم ..... غير ان المفاجأة التي لم لم اسمع بها من قلب فجرها على النحو التالي وتكاد تكون بالحرف !!! فقد سجلت ما قاله بالكلمة والنقطة ، وانقل من أوراق كتبتها في حينها... يقول : ( ..... بعد ما أوضحت لحضراتكم الطبيعة التلفزيونية لموضوع الثغرة من الناحية العسكرية واستحالة تنفيذها على الأرض .... أقول لكم الآتي وأرجوكم الانتباه ، ولا داعي لأي سؤال تعقيبا على ما سوف أقوله لأنني باختصار لن أجيب ...!!!!؟؟؟. .... نظر الدكتور اسامة خلفه متأكدا من استمرار إغلاق أبواب القاعة مانعا دخول احد ..... قائلا " الآن كنت قادما من الوزارة ، وزارة الخارجية ، انتبهوا .... لقد اتصل الزعيم السوفيتي بريجنيف بالرئيس السادات وأبلغه ردا على اتصال الرئيس بموسكو وكان الحديث عن الثغرة ..... ان أبلغت القيادة السوفيتية القاهرة ان بريجنيف اتصل بالرئيس الأمريكي نيكسون يبلغه ان القوات السوفيتية أعلنت حالة التأهب النووي وان طلائع من قواتها في طريقها إلى بورسعيد إذا لم تامر واشنطن القوات الإسرائيلية بالتوقف عن عملياتها العسكرية في غرب القناة على الفور والقبول بوقف إطلاق النار الذي طالب به المندوب السوفيتي في مجلس الأمن ....... !!!!!
انتهى الكلام الخطير الذي لم يسمع به احد خارج القاعة والذي تأكد بعد ذلك بسنوات في كتب ومراجع محدودة لعل اهمها مذكرات مستشار الأمن القومي الأمريكي وقت الحرب هنري كيسنجر والمسماة " سنوات البيت الأبيض "..... وبدا الحضور مشدودا لما سمع ، بل ان البعض احتضن من يجاوره فرحا واطمئنانا ...... وبعد فترة صمت سمعنا الدكتور عبد الواحد يقول بصوت تتخلله العبرات وتدافع الدموع من عينيه ( الحمد لله الحمد لله. الحمد لله ) قالها ثلاث مرات .... ثم نظر معاتبا إلى الدكتور اسامة قائلا له " ما كنت قلت الكلام الحلو ده من زمان يا سامة لتريحنا بها !!!! " وبذكاء نادر وبخفة دم مصرية كان يتسم بها رحمه الله ... رد على الدكتور عبد الواحد ( دكتور ..... نحن لا نستريح إلا بالصلاة ) في إشارة إلى حديث الرسول إلى سيدنا بلال مؤكدا على قيمة ومقام الصلاة عندما كان يقول له سيد الخلق ( أقم الصلاة .... أريحنا بها يا بلال ).........
صلاح زكي احمد ......القاهرة في ١٦ / ٩ / ٢٠١٣ ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق