( صور متفرقة عن الدكتور اسامة الباز في يوم الرحيل )
الصورة الرابعة
( ... في مطلع شهر أكتوبر من عام ١٩٧٨ ، كنت قادما من مجلة روزا اليوسف المصرية متجها إلى ميدان التحرير ، اثر لقاء مع الصديق والأخ الكريم الأستاذ محمود المراغي رحمه الله ، مدير تحرير تلك المجلة العريقة.... أتذكر يومها كنت قد أعطيته دراسة عن " دور قناة السويس بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد " لنشرها في جريدة الراية القطرية ، بوصفه مديرا لمكتبها في القاهرة ، وفي الفترة التي كان الأستاذ الكبير كامل زهيري رئيساً لتحريرها في الدوحة في غالب الظن ....
المهم وأنا أسير في شارع القصر العيني وبالقرب من مبنى مجلس الشعب أو مجلس الشورى ، لمحت الدكتور اسامة الباز يسير على قدميه كعادته ووسط الناس ، يرافقه احد أصدقائه مندمجا في الحديث معه .... حينها اتخذت قرارا سريعا بترك الرصيف الذي يسير عليه والسير في بحر الشارع .... فما وجدت الدكتور اسامة ان ترك صديقه واستوقفني للحديث معي ...؟؟؟؟ قال يومها وبلغته المحببة .... " صلاح ... أولا انا زعلان منك ، يا راجل متسائلش عني المدة دي كلها ؟؟؟؟ إحنا مش صحاب وإلا إيه ، وإلا انا بتكلم غلط .... !!! وحينها اكتشفت لازمة جديدة في كلامه " انا بتكلم غلط وإلا إيه " .... ووفق علماء النفس لا يقولها إلا صاحب علم ، يقولها تواضعا وخجلا ، فضلا عن الرغبة في سماع الطرف الآخر .....
كنت بالفعل قد ابتعدت عن الدكتور اسامة لبضع سنوات ، فقد تفرقت بنا السبل ، إذ تركت العمل في منظمة الشباب والعودة إلى عملي في الوقت الذي ترك فيها الدكتور كمال أبو المجد وزارة الشباب وأمين الشباب إلى وزارة الإعلام ، ليأتي من بعده الدكتور عبد الحميد حسن رحمه الله ، الذي لم اكن على وفاق معه ولا تربطني به أي علاقة ، فقد توقعت شرا يحيط بالمنظمة بعد تقارير لجنة النظام التي كان يرأسها احد حمقى نظام الرئيس السادات ، المدعو " محمد عثمان إسماعيل " الذي رفد نصف صحفيي مصر في عام ١٩٧٣ / ١٩٧٢، وطالت القائمة أسماء مثل الأستاذ احمد بهاء الدين والدكتور لويس عوض .... إلى آخره ، غير ان نصيب المنظمة كان أدهى وأمر ، إذ اتهم التقرير أعضاء منظمة الشباب بانهم " ماركسيون وأعضاء في الحركة الشيوعية ولا بسي قميص عبد الناصر وأذناب مراكز القوى ...!!!!؟؟؟
كان الدكتور عبدالحميد حسن رحمه الله ، قادما لتصفية المنظمة والإجهاز عليها بالكامل . تركت المكان لا الوي على شيئ ، ولم أعطى له أو لغيره فرصة الأبعاد من جانبه أو من يأتمر بأمره ..... ووقتها كنت انا وعدد كبير من زملائي أعضاء المنظمة اول المؤسسين لمنبر اليسار الذي أسسه أبي العظيم الأستاذ " خالد محيي الدين " وتلك قصة عظيمة أخرى أتمنى ان يأتي الحديث بشأنها قريبا ....
كان الدكتور اسامة على علم بهذا كله ، فقد كان متابعا للشأن العام ، وكان بحكم ثقافته اقرب إلى اليسار منه إلى أي اتجاه آخر ، وان لم يكن بحكم عمله في الخارجية المصرية منغمسا في أي حركة سياسية ، غير ان غالبية أصدقائه كانوا من كتاب وصحفيي اليسار .... قلت للدكتور اسامة هذا هو السبب الأول للزعل ... ماهو السبب الثاني ؟؟؟؟ فبادرني بعد ان عدت ادراجي مرة ثانية لنجلس مع صديقه على مقهى قريب من مجلة روز اليوسف ، ليقول لي ونحن نسير عكس اتجاه ميدان التحرير " لن أقول لك السبب الثاني للزعل إلا إذا عرفت أسباب امتناعك عن الاتصال بي طوال هذه المدة ، انت مش معاك تليفوني والا نسيته؟؟؟ وبعد فترة صمت قال لي "... ياسيدي انت ملكش حجة ، انت عارف مكتبي في مبنى وزارة الخارجية اللي في التحرير اللي جنب جامع عمر مكرم ... مالكش حجة ... مش كده والا ايه .... "
وبعد ان جلسنا على المقهى المختار ... طلب الدكتور اسامة ما نشربه ، غير أنني لاحظت ان العاملين في ذلك المقهى يعرفونه حق المعرفة ، ليست معرفة شهره أو بوصفه شخصية عامة ، ولكن معرفة عشرة وعن قرب .... فهمت ذلك من واقع الأسئلة الموجهة اليه من نوعية " إيه الحكاية يا باشا ... حضرتك يا دكتور ما شفناش حضرتك من أكثر من شهر ؟؟؟؟ فيبتسم الدكتور اسامة ويقول لعامل المقهى " وعملي فيها مثقف انت مش عارف ان لا يمنعني عن المجئ إلا الشغل ..... " لا حظت انه لم يأتي على سيرة انه كان مع الرئيس السادات في كامب ديفيد ..... غير ان العامل الحصيف فهم ما يقوله الدكتور اسامة .... قائلا له " خلاص يا باشا انا عرفت إيه اللي منعك عننا ""..... قالها الرجل وتركنا في حال سبيلنا ، ولم يعود إلينا إلا ليجدد الطلبات أو يأتي باكواب من الماء .....
تحدثت وقلت له " انا بداية غلطان .... ولكن اسمح لي ان أقول لحضرتك تقديري أو تفسيري لسبب الغياب أو قل الابتعاد ، ربما تجد فيما اقوله تفسيرا او قل تبريرا .... تعرف أنني عضو في حزب التجمع ، وقد أسست مع عدد من زملائي الأعضاء السابقين في منظمة الشباب ( اتحاد الشباب التقدمي ) داخل حزب التجمع الذي اعلن رسميا كحزب في أبريل من عام ١٩٧٦ .... " فرد علي قائلا " اعرف انك سكرتير اتحاد الشباب والأخ عبد الغفار شكر هو مقرر الاتحاد ، اتحاد الشباب ...." ... آمنت على كلامه . ولكن أضفت اليه مالم يعرفه احد ، فقلت له " ... حضرتك عارف أو ربما مش عارف .... ولم يتركني أكمل كلامي قائلا : بلاش حضرتك دي .... !!!؟؟؟ كنت قد لاحظت امتعاضه من هذا الوصف في بداية الحديث ... قلت له " طيب يا دكتور .... قال على الفور " دي أحسن .... أتفضل كمل ... " قلت له ..." في يناير عام ١٩٧٧ تم اعتقالي خلال الانتفاضة الشعبية ، التي اسماها العالم انتفاضة الخبز وأسماها الرئيس السادات انتفاضة الحرامية !!! أظنك تعرف ما حدث .... فقد كانت هناك قضية التظاهر وقضية التنظيمات .... انا كنت ضمن أعضاء القضية الثانية ، انا كنت متهما في القضية الثانية بوصفي وفق تقارير مباحث امن الدولة قياديا في واحد من التنظيمات الماركسية .... وهذا كما تعلم غير حقيقي بالمرة ، فلم ادخل عمري في أي عمل سري ..... دا انا ، وأنا الناصري ، رفضت الانضمام الي التنظيم الطليعي ، تنظيم عبد الناصر ، وذلك من خلال دعوة غير مباشرة من الدكتور فؤاد محيي الدين حين كان محافظ الشرقية ، وذلك اثر مظاهرات طلبة الجامعات عام ١٩٦٨ ، والتي افصح عن رغبة قيادته في التنظيم الانضمام إلى قطاع الشباب في التنظيم الطليعي على نحو ما ابلغني ، ذلك المهندس احمد حمادة مسئول الجامعات في التنظيم الطليعي ....." .... لاحظت الاهتمام على وجه الدكتور اسامة ، ورغبة واضحة في الاستماع .... غير انه بادرني بالقول ... الذي اعرفه ان قرار الاتهام ، في قضية التنظيمات جاء على ذكر ١٧٦ اسما لم تكن انت منهم .... وفي ضوء ذلك تم الإفراج عنك بعد نحو سبعة اشهر من الاعتقال .... آمنت على كلامه وقلت له " ... انا خرجت من معتقل طرة وتحديدا من عنبر التجربة يوم الثاني من يوليو عام ٧٧ .... لكن السبب الذي منعني من الاتصال بك .... هو حادثة. لافتة .... وأنا في يوم اعتقالي ، وفي داخل السيارة التي كانت تقلني من قسم حدائق القبة إلى سجن طرة , ان أوقف ضابط المباحث السيارة ، وأتذكر اسمه لانه رجل غاية في النبل والشهامة ، اسمه " رؤوف حمدي " ان قال لي : صلاح .... إحنا دلوقت داخلين على أقذر وأوسخ رجال المباحث ، مباحث السجون .... قال هذا الكلام بعد ان ارسل في حركة مقصودة السائق بحجة شراء سجائر له وبعض الطعام ، له ولي ... أظنه بسكو مصر .... قال لي هذا المحترم " انت فتشت في بطاقتك فيها إيه ؟؟؟؟ قلت له كلمة واحدة " لا .... " قال " اعطني إياها ،قالها بالعامية المصرية طبعا .... وعند الفحص وجد بعض الكروت الشخصية لعدد من الأصدقاء ، منهم الكارت الشخصي لك ..... لم يتوقف الرجل عند باقي الكروت ، فقال لي وبلهجة مفاجئة ونقية " .... يا نهار اسود كل دول .... دا كلهم مطلوب القبض عليهم ؟؟؟؟ تسمح لي أقطعهم .... ولكن قولي : إيه اللي عرفك بالدكتور اسامة الباز ؟؟؟ دا انت كده ها توديه في داهية .... انت مش عارف ان له منصب كبير في الخارجية !!!! أرجوك أنساه خالص .... منصبه لن يرحمه .... انت اخترت طريقك ، وانت عارف تكلفته .... الدكتور اسامة ، شخصية وطنية ، واعرف انه له دور مهم في وزارة الخارجية ... أرجوك ابعد عنه ... ." انتهى كلام هذا النبيل في الساعات الأولى من فجر ٢١/ ٢٢من يناير عام ٧٧ ... وبعد ان انتهيت من كلامي قال لي الدكتور اسامة " وسمعت كلامه ليه ؟؟؟؟ ترك عتابه الجميل والنبيل أطيب واجمل الأثر في نفسي ، حتى ان كلماته تلك تثير الشجن في نفسي كلما تذكرتها ، وبعد قرابة اربعين عاما من ذلك الحدث ... فكم كان هذا الإنسان نبيلا وعظيما إلى ابعد حد .....
قلت ما وجدته تفسيرا لموقفي .... " أولا وكما قلت لك في بداية الحديث انا غلطان . ولكن ربما لم تسألني لماذا أخذت كلمات. هذا الرجل مأخذ الجد ؟؟؟ لقد حماني من خطا خطير وقعت فيه لحظة القبض علي ، تتذكر عندما كنا معا في موسكو عام ٧٣ ؟؟؟؟ وفي فندق موسكوفا الذي يطل على الكرملين من جهة ووزارة التخطيط من جهة ثانية ، ان أتيت لك بمجلة " الاتحاد " الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الإسرائيلي وعليها صورة الرئيس جمال عبد الناصر في إطار تغطية هذا الحزب للعيد العشرين للثورة ؟؟؟؟؟ قال الدكتور اسامة " أتذكر طبعا .... وكنت يومها قد وجدت كما وجدت انت نفس النسخة من تلك المجلة في غرفتي ،،،، جاتني يومها تسألني الاحتفاظ بها ، وعندما لمحت رغبتك في ذلك قلت لك : مفيش مشكلة ، انا اعرف حبك للرئيس عبد الناصر ، وحبك لكل ورقة مكتوبة...!!!
يومها يا دكتور احتفظت بهذه المجلة حتى لحظة اعتقالي .... وعندما جاءت الحملة للقبض علي لاحظ ضابط المباحث هذه المجلة ,,,, وقال لي " ... بأنهار اسود كده بقت قضيتين ..... قضية شيوعية. وقضية الاحتفاظ بمنشورات ومطبوعات إسرائيلية ..... !!؟؟؟ يومها لاحظ ان الصفحة الأولى بعد الغلاف عليها توقيعك ورقم تليفونك .... واعتقد انه ظن ان المجلة تخصك ولا تخصني ... وعندما سألني عن امتلاكي ليها ، وقلت له أنني صاحبها ولا دخل للدكتور اسامة .، ان قال لي " طيب أخفيها في أي داهية ..... " وعندما نزلت معهم من مسكني في حدائق القبة ، لم تكن تلك المجلة من المضبوطات ...... حينها عرفت ان هذا الرجل شديد الاحترام ، وهو ما دعاني للبحث عنه بعد خروجي من الاعتقال .... لقد عرفت يا دكتور ، انه لم يكن من رجال مباحث امن الدولة!!!!! كان من افضل الشخصيات في إدارة الرقابة على الصحافة والمطبوعات التابعة لهيئة الاستعلامات وقد تم الاستعانة به لاتساع حملة الاعتقالات التي شملت كل مصر ....
لم يعقب الدكتور اسامة ، سوى بكلمة واحدة أو عبارة واحدة : رغم كل شئ هذا البلد عظيم ، عظيم بجد ...... )
صلاح زكي احمد .... ١٨ / ٩/ ٢٠١٣ ... القاهرة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق