الثلاثاء، 24 سبتمبر 2013


 ( صور متفرقة عن الدكتور اسامة الباز مع يوم الرحيل ) 


الصورة الثانية : 




.... ( .... في الأول من أبريل من عام ١٩٧٣ وصلت الطائرة الروسية المدنية العملاقة من طراز " تي يو " إلى مطار موسكو الدولي قادمة من القاهرة ، تقل وفدا من الشباب المصري للمشاركة في احتفالية مشتركة مع شباب منظمة الشباب السوفيتي المسماة " الكومسمول " .... كانت تلك الاحتفالية تسمى مهرجان الشباب العربي / السوفيتي ، وبدت مظاهر الحفاوة التي أحاطت بالوفدالمصري كبيرة وهو الأمر الذي فسرته بانه رسالة من القيادة السوفيتية حينها بانها " رد ذكي ومهذب " على خطوة الرئيس السادات بإنهاء مهمة الخبراء السوفيتي في الجيش المصري والتي كان قد اتخذها في يوليو من عام ١٩٧٢ ..... وقتها كنت واحدا من أعضاء الوفد السياسي الذي يضمه هذا الوفد والذي كان يرأسه الدكتور اسامة الباز ، غير ان الدكتور اسامة ، وكان وقتها مسؤولا كبيرا في الخارجية المصرية ، أظن انه كان مديرا للمعهد الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية لم يكن معنا على متن نفس الطائرة ، ..... وعرفت بعدها انه كان مكلفا بشرح وجهة النظر المصرية لهذه الخطوة المفاجئة من الرئيس السادات تجاه الصديق السوفيتي ، والتي اسماها الرئيس نفسه بانها وقفة مع الصديق ... 
المهم وصل الدكتور اسامة إلى مدينة " لينينغراد " العريقة والتي تسمى الآن " سان بطرسبورج " ومنها إلى العاصمة موسكو ليلحق بنا .... وفور وصوله أعدنا مراجعة الأبحاث التي سنقدمها في الندوة المشتركة مع الجانب السوفيتي ، كنت وقتها قد أعددت بحثين الأول عنوانه " نحو فهم أعمق لقضية الصراع العربي الإسرائيلي " و" الثاني عنوانه " التناقضات الطبقية عند التحول إلى الاشتراكية في دول العالم الثالث ." ... وفي يوم الندوة التي ضمت أعضاء كبار من قيادات الشباب السوفيتي وعدد من المرشحين لعضوية المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي ، وهذا بحسب هذا الزمن موقع قيادي كبير ، ففي مقدور الواحد من هؤلاء ان يتخذ قرارات كبيرة دون الرجوع إلى احد !!!!
المهم عقدت تلك الندوة في احد قاعات الكريملين ، قلعة الحكم والقيادة زمان وحتى الآن ،..... في أجواء القاعة الفخمة والعريقة التي تجسد عظمة القياصرة ، تحدث الدكتور اسامة الباز ، وكانت المفاجأة انه شخصية معروفة ومشهورة لدى كل الحضور ، فقد لقي من الحفاوة ما آثار فضولي ، وسألته حينها عن السبب .... فأجابني انه يأتي إلى موسكو كثيرا بوصفه من كبار موظفي الخارجية المصرية ، فضلا عن روابط صداقة قوية تربطه بالسفير المصري آنذاك ، الدكتور " مراد غالب " احد اهم السفراء في تاريخ وزارة الخارجية المصرية .... 
تفضل الدكتور اسامة بتقديمي للحضور قبل إلقاء البحث الأول لي عن " الصراع العربي الإسرائيلي " بكلمات اعتز بها مدي الحياة ، فقد كان رحمه الله يتوسم في خيرا ...... غير ان الذي لفت نظري انه قدمني قبل ان يقدم هو بحثيه ، وتلك شيم وأخلاق الكبار .... كان الدكتور اسامه قد اعد بحثا عن " سياسة الوفاق الدولي بين أمريكا وروسيا وأثرها على الوضع في الشرق الأوسط بعد حرب ٦٧ " كان بحثا عميقا وشجاعا وناقدا للسياسة السوفيتية بجراءة وبقوة.... لم يتوقف عند مقتضيات الضيافة والحفاوة التي لقيها الوفد المصري ، فقد قدم نقده مدعما بأرقام وتواريخ ومواقف كان من الصعب ان يرد عليها الجانب السوفيتي بسهولة ، مما دفعهم إلى الاكتفاء بما قدمه الدكتور اسامة ، وقدمته من بحث قبل ذلك . ، فبادروا برفع الجلسة للاستراحة ، غير أنني لاحظت اختفاء بعض من أعضاء الوفد ، وهو الأمر الذي دفعني لسؤال الدكتور اسامة عن ذلك ، فقال لي وبلغة الخبير " أوعى تتصور ان هؤلاء الناس غير مستعدين بتقديم بحث عميق ولائق ..... ثم سكت برهة قبل ان استوضحه بالمزيد ... فوجئت بقوله " ما قدمته يا صلاح من نقد للفهم الخاطئ في بعض دول العالم الاشتراكي لحقيقة الموقف تجاه قضية الصراع العربي الإسرائيلي ما يستوجب الرد ، خذ موقف رومانيا المساند لإسرائيل ، وخذ بعض التصورات الصادرة من بعض المسئولين السوفييت الآن ؟؟؟.... حينها انفجرت في الضحك وقلت له " معقول يا دكتور اسامة ما تقوله تعليقا على ما قدمته ، انا ؟؟؟؟ آمال ما قدمته حضرتك ها يقولوا عليه إيه ....؟؟؟؟ وبكل تواضع العالم ، ابتسم ضاحكا وقال " ربما ، ربما " قالها بالعربية والانجليزية .... 
وعند بدء الحوار في جلستنا الثانية ، بادر الدكتور اسامة بتقديمي لكي اقدم بحثي عن التحول الاشتراكي .... وقام معي ب " الواجب " مرة ثانية !!! مسبغا على ما قدمته ما افخر به وأعتز .... وعندما رددت عليه بالشكر ، رد علي ( صلاح .... البحث جيد جداً.... ثناء الدكتور أبو المجد في مكانه ) .... شكرته على نبل أخلاقه ، وتفسيري انه كبير علما وخلقا ، وكنت من سعداء الحظ ان جمعني به في مرحلة من أجمل مراحل العمر .....
المهم ان بادر الجانب السوفيتي بالرد على ما قدمناه ، وبدا الجهد فيما قدموه ، وتلك قصة أخرى سوف اعرض لها عندما يحين وقتها .... غير ان المفاجأة المذهلة التي أدهشت الجميع ان عقب السوفييت على ما قدمه الدكتور اسامة في بحثه الثاني وكان عنوانه " مخاطر الانغلاق السوفيتي على العالم ، حرية الصحافة نموذجا " كان بحثا طلائعيا ومبكرا لازمة الحرية في التجربة السوفيتية !!؟؟؟ .... كان جرس إنذار لما سوف تؤول اليه التجربة السوفيتية بعد نحو عشرين عاما ...؟؟؟ فقد كانت قضية الديمقراطية وحرية الراي وتعدد المنابر الصحفية وغيابها سببا جوهريا للانهيار وان لم يكن السبب الوحيد .... لقد انهارت الامبراطورية ، امبراطورية " لينين " و " ستالين " وقياصرة الكريملين الجدد ...
المفاجأة كانت هذه المرة من جانب السوفييت ومن " العيار الثقيل " كما يقال عادة في أيامنا تلك ،،،،، تحدث كبيرهم ، وبعد ان قدم ردودا دقيقة لم قدمناه .... ابتسم وقال " دكتور اسامة ما سمعناه في تلك الجلسة ، والجلسة السابقة هو حوار بين أصدقاء وليس معركة بين أعداء ..... دكتور اسامة ، لقد سبق ان قدمت لنا الكثير نصحا وتوجيها وإرشادا .... فعليك ان تكمل " جميلك " كما يقولون في الثقافة العربية .... ثم سكت الرجل وكان السكرتير العام لمنظمة الشباب السوفيتية والقيادة المقربة من السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفيتي " ليونيد بريجنيف ، كان شخصا تجتمع عنده كلما صفات القيادة ....... سكتنا جميعا في انتظار هذا الجميل الذي طالب يه هذا المسئول الكبير .... بعد لحظة صمت قال " ... دكتور اسامة ، نطلب منك ان تقدم هذه المحاضرة أمام طلاب معهد الدراسات الدولية ، لكي يعرفوا جوانب النقص في تجربتنا في بناء الاشتراكية " ... ثم سكت الرفيق السوفيتي الكبير وكشف عن المفاجأة الكبيرة " دكتور اسامة ، لا تنسى انك أستاذ في الدبلوماسية وقد سبق ان قدمت أمام طلاب هذا المعهد وهم سفراء الغد أكثر من محاضرة وبالتنسيق مع الخارجية المصرية ....!!!..... " يعني انت صاحب فضل وصاحب بيت " ... كما تقولون في مصر ..... 
صلاح زكي احمد .... القاهرة في .... ١٥ / ٩/ ٢٠١٣ ......

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق