الثلاثاء، 24 سبتمبر 2013

( صور متفرقة عن الدكتور اسامة الباز في يوم الرحيل ) 


الصورة الخامسة : 




( .... في المقهى القريب من مجلة روزا يوسف المصرية ، ويقع في منتصف شارع القصر العيني كان الحديث ممتدا مع الدكتور اسامة الباز في حضور احد أصدقائه ، وذلك في بدايات شهر أكتوبر من عام ١٩٧٨ ، وغداة وصوله من الولايات المتحدة عقب مشاركته الرئيس السادات في مفاوضات كامب ديفيد ..... 
كان عتاب الدكتور اسامة الي شخصيا يرجع إلى غيابي عنه لفترة من الزمن اقتربت لنحو السنتين .... اعتبرها الرجل النبيل عقوقا ما كان ينبغي ان يصدر مني !!!؟؟؟ وأنا اعتبرت ما حدث سواء خطا أو صوابا اجتهادا ، مجرد اجتهاد لترك الدكتور اسامة لعمله ، الذي أدرك انه يؤديه بكفاءته المشهود بها من كل من عرفه أو اقترب منه ، ففي أجواء محمومة ، سياسية وإعلامية صاحبت خطوة الرئيس السادات بالذهاب إلى القدس ، كان النظام وأجهزته ، كل أجهزته في حالة من الاستنفار والعدوانية البالغة .... 
المهم استمع الدكتور اسامة لما قدمته من تفسير لسبب الغياب ، غير انه وبكرم منه ، أبدى رغبته في استمرار التواصل وبنص كلماته ... " الاطمئنان المتبادل " وأردف بالقول " ... انت مش شايف زي ما بتقول ان في أجواء محمومة في البلد والمنطقة ؟؟؟!!! .... هذا داعي قوي للاطمئنان .... ثم سكت وقال " اطمئن عليك يا سيدي . العملية اللي دخل فيها الرئيس السادات غيرت حسابات وتوازنات كتير في المنطقة ، انه زلزال ، سواء كنا مع هذا الوصف أو ضده .... لكن حقائق الأمور ، السادات هو صاحب المبادرة ، ولكنها حلقت في أجواء بعيدة ، تحاول أطراف عديدة الإمساك بها ، سواء من أراد الإمساك بها ليفجرها من اجل القضاء عليها ، أو يمسك بها ليلحق بها ، قالها الدكتور اسامة بالعامية المصرية " يتشعلق فيها " لكي يأخذ من التورتة ما يراها محققا لمصالحه .... " .
... وبعد فترة صمت لم تطل ، قلت للدكتور اسامة ، اعتقد أنني أجبت أو قدمت تفسيرا لسبب الغياب .... لم يتوقف كثيرا عند التعقيب ، وبدا لي نصف مقتنع ونصف رافض لما ذكرته ، وهذا دعاني إلى ان أبادر بسؤاله ، " .... هذا هو السبب الأول للزعل ... ماهو السبب الثاني ؟؟؟؟ ... وفي اقل من دقيقة وجدته يخرج من جيب قميصه ، حيث كان يرتدي " قميصا بسيطا وبنطلون جينز "بضع ورقات بيضاء ، وقال لي وهو يعطيني إياها " ... هذا هو السبب الثاني للزعل .... !!!؟؟؟ وما ان فتحتها ، حتى أدركت ماهي ... أنها " بيان حزب التجمع الصادر عن الأمانة العامة للحزب بشان الموقف من اتفاقية كامب ديفيد " .... البيان وللحق يقال كان هو الصوت الذي يكاد يكون وحيدا ، مع بعض المواقف الأخرى المحدودة التي عارضت تلك الاتفاقية .... لكن اللافت للنظر ان غضب الدكتور اسامة لم يكن مني فقط بشان هذا البيان الحاد والموضوعي - على الأقل من وجهة نظر من أصدروه - كان غضبه مني بسبب توقيعي على هذا البيان وبحكم ما تصوره مني وعني انه لا يشارك في عمل يناقض ضميره وقناعاته الوطنية .... ، وكان غضبه من اثنين من أصدقائه اشد وأعنف ، والعنف ليس عنفا في اللفظ أو القول ، فلم يعرف عنه طوال عمره غير رقة الكلمة وجمال التعبير، رغم الوضوح والحسم فيما يقول ، فهو الخبير في اللغة كتابة وحديثا .... كان غضبه من الأستاذين .... لطفي الخولي ومحمد سيد احمد .... واضحا ، وقال لي الدكتور اسامة ".... هل تعلم أنني وفور وصولي إلى القاهرة تحدثت مع لطفي ومحمد وأبلغتهما بكل ما دار في كامب ديفيد وموقفي وموقف زملائي في الوفد المصري ، عبد الرؤوف الريدي ونبيل العربي واحمد ماهر وأبو الغيط حتى ان رئيس الوزراء الإسرائيلي مناجم بيجين حاول الإيقاع بيننا وبين الرئيس السادات ..!!؟؟؟ واصفا جماعتنا بأننا " عصابة وزارة الخارجية المصرية " التي تحاول إفساد كل شيئ يمكن التوصل اليه من اجل ما أسماه السلام .....؟؟؟!!! 
حينها حاولت التخفيف من غضب الدكتور اسامة ، لكي اذهب بعض الشئ عن أسباب غضبه ، فقلت له ، أولا ، نتحدث عن أسباب التوقيع على البيان الصادر من الحزب ... هذا كما تعرف ليس أمرا معتادا . فمع صدور أي بيان يتم الاكتفاء باسم " الأمانة العامة " فقط .... وقبل ان استكمل كلامي .....فأجائني الدكتور اسامة ، قائلا ".... لطفي هو الذي أصر على توقيع كل أعضاء الأمانة العامة على البيان ، ولم يترك البيان يخرج بحالته المعتادة ... هل تعرف السبب ؟؟.... ؟ التزمت الصمت من هول المفاجأة ، كيف عرف ؟؟؟!!! ..... وقبل ان افكر فيما سوف يقوله ، توقعت ما قاله ، اعرف ان ثمة صراعات داخل الحزب ومن ثم الأمانة العامة ، بعضها حزبي وتنظيمي والآخر شخصي ... ولم أبادر بتقديم تفسير أو حتى إشارة لما يدور في ذهني واعرف به حق اليقين ، وتركت نفسي استمع لما يقوله الدكتور اسامة ، لقد لخص المسالة بالصراع حول من ينال ثقة الأستاذ خالد !!!؟؟؟ هل هو لطفي الخولي أم الدكتور رفعت السعيد ؟؟؟!!! " .... تعرف ان الأستاذ خالد هو الذي اختار رفعت بعد خروجه من المعتقل عام ٦٤ ليعمل معه في جريدة الأخبار وأخبار اليوم عندما كان الأستاذ خالد رئيساً لمجلس إدارتها ، وعمل أيضاً معه في سكرتارية مجلس السلام العالمي في الوقت الذي كان رئيساً لهذا المجلس .... قلت اعرف ذلك كله ، واعرف ان الدكتور رفعت بالنسبة للأستاذ خالد هو بمكانة ومنزلة الابن .... لكن إيه دخل الأستاذ لطفي الخولي في الموضوع ؟؟؟!!! .... قال الدكتور اسامة "..... عندي تفسير لا يغيب عن فكرة الصراع من اجل من ينال ثقة الأستاذ خالد ، وذلك بتحطيم أدوات القوة والنفوذ لرفعت عند بعض الأجهزة النافذة في الدولة ؟؟؟!!! غير أنني حاولت ان أوضح له أمرا يكاد الجميع يعرفه في أروقة الحزب . فقد فهمت وبسرعة ما يرمي اليه الدكتور اسامة ، ان الدكتور رفعت له صلات قوية بأجهزة الأمن ؟؟!!! .... وقلت له مادار في ذهني ، بل أضفت له تفسيرا حقيقيا لتلك الحقيقة ، وقلت له ".... ما تفكر فيه يا دكتور يحسب لصالح الدكتور رفعت ولا يحسب عليه ... فقد اتفق الجميع على ان يكون قناة الاتصال مع النظام سواء رئاسة الجمهورية أو الأجهزة السيادية والأمنية هو شخص واحد يثق فيه الجميع أو بالدقة اغلب أعضاء الحزب ، فضلا عن ثقة الأستاذ خالد شخصيا ، ذلك الشخص هو رفعت السعيد ..... " قلت ما قلته وسكت ، ثم وجدت الدكتور اسامة ، ينفجر في الضحك ، وقال لي " .... لقد خانك ذكائك . انت متصور أنني اشك في ولاء رفعت السعيد للأستاذ خالد وللحزب .... لآ ، لا ، انت رحت بعيد ... ما كان يستهدفه لطفي الخولي هو اختبار مدى شجاعة وانحيازات رفعت السعيد بالتوقيع على البيان ، هل سيوقع مع الذين وقعوا من أعضاء الأمانة العامة وبذلك يفقد احد عناصر القوة التي يمتلكها بوصفه قناة الاتصال مع تلك الأجهزة القوية في الدولة ؟؟؟ أم سيجد مخرجا ومبررا لعدم التوقيع ، ليخسر مصداقية داخل الحزب ؟؟؟!!! لعبة معقدة كما ترى ،،، ولكنها الحقيقة ،،!!!؟؟ 
غير أنني بادرت الدكتور اسامة بالقول ، لكنك ترى توقيع الدكتور رفعت على البيان مما يعني ، انه حدد اختياره بالانحياز لوجهة نظر الحزب دون الخوف من فقدان الثقة من الرئاسة أو غيرها ....؟؟؟!!! وفي لمح البصر وجدت الدكتور اسامة يقول لي ، هذا الذي لم يفهمه لطفي الخولي بالمرة ....فبتوقيع رفعت السعيد على البيان كسب مصداقيته أمام قيادة الحزب وأعضاءه ، ولم يخسر ثقة الرئاسة ولا أجهزة السلطة والسيادة ..... وفي كل الأحوال هو يؤدي دورا وطنيا وحزبيا بلا شك .... !!!؟؟؟ ..... ثم سكت بضع ثوان وقال لي ".... هل تعلم ان هذا الاجتماع وبوسائل حديثة وربما بشرية كان موضوعا تحت المراقبة ، أقول لك ما قاله محمد سيد احمد عني خلال هذا الاجتماع ؟؟؟؟؟!!!! 
عندها التزمت الصمت لكي اعرف المزيد من الفهم والإدراك عن عالم عميق من السياسة ومناوراتها وخبايا ها .... انه " عالم عجيب عجيب عجيب " ...... على حد اسم فيلم أمريكي كان حديث العالم في سنوات الستينيات ؟؟؟؟!!!!
صلاح زكي احمد .... القاهرة في ٢٠ / ٢١ / ٩ / ٢٠١٣ ..

( صور متفرقة عن الدكتور اسامة الباز في يوم الرحيل ) 




الصورة الرابعة 



( ... في مطلع شهر أكتوبر من عام ١٩٧٨ ، كنت قادما من مجلة روزا اليوسف المصرية متجها إلى ميدان التحرير ، اثر لقاء مع الصديق والأخ الكريم الأستاذ محمود المراغي رحمه الله ، مدير تحرير تلك المجلة العريقة.... أتذكر يومها كنت قد أعطيته دراسة عن " دور قناة السويس بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد " لنشرها في جريدة الراية القطرية ، بوصفه مديرا لمكتبها في القاهرة ، وفي الفترة التي كان الأستاذ الكبير كامل زهيري رئيساً لتحريرها في الدوحة في غالب الظن ....
المهم وأنا أسير في شارع القصر العيني وبالقرب من مبنى مجلس الشعب أو مجلس الشورى ، لمحت الدكتور اسامة الباز يسير على قدميه كعادته ووسط الناس ، يرافقه احد أصدقائه مندمجا في الحديث معه .... حينها اتخذت قرارا سريعا بترك الرصيف الذي يسير عليه والسير في بحر الشارع .... فما وجدت الدكتور اسامة ان ترك صديقه واستوقفني للحديث معي ...؟؟؟؟ قال يومها وبلغته المحببة .... " صلاح ... أولا انا زعلان منك ، يا راجل متسائلش عني المدة دي كلها ؟؟؟؟ إحنا مش صحاب وإلا إيه ، وإلا انا بتكلم غلط .... !!! وحينها اكتشفت لازمة جديدة في كلامه " انا بتكلم غلط وإلا إيه " .... ووفق علماء النفس لا يقولها إلا صاحب علم ، يقولها تواضعا وخجلا ، فضلا عن الرغبة في سماع الطرف الآخر ..... 
كنت بالفعل قد ابتعدت عن الدكتور اسامة لبضع سنوات ، فقد تفرقت بنا السبل ، إذ تركت العمل في منظمة الشباب والعودة إلى عملي في الوقت الذي ترك فيها الدكتور كمال أبو المجد وزارة الشباب وأمين الشباب إلى وزارة الإعلام ، ليأتي من بعده الدكتور عبد الحميد حسن رحمه الله ، الذي لم اكن على وفاق معه ولا تربطني به أي علاقة ، فقد توقعت شرا يحيط بالمنظمة بعد تقارير لجنة النظام التي كان يرأسها احد حمقى نظام الرئيس السادات ، المدعو " محمد عثمان إسماعيل " الذي رفد نصف صحفيي مصر في عام ١٩٧٣ / ١٩٧٢، وطالت القائمة أسماء مثل الأستاذ احمد بهاء الدين والدكتور لويس عوض .... إلى آخره ، غير ان نصيب المنظمة كان أدهى وأمر ، إذ اتهم التقرير أعضاء منظمة الشباب بانهم " ماركسيون وأعضاء في الحركة الشيوعية ولا بسي قميص عبد الناصر وأذناب مراكز القوى ...!!!!؟؟؟ 
كان الدكتور عبدالحميد حسن رحمه الله ، قادما لتصفية المنظمة والإجهاز عليها بالكامل . تركت المكان لا الوي على شيئ ، ولم أعطى له أو لغيره فرصة الأبعاد من جانبه أو من يأتمر بأمره ..... ووقتها كنت انا وعدد كبير من زملائي أعضاء المنظمة اول المؤسسين لمنبر اليسار الذي أسسه أبي العظيم الأستاذ " خالد محيي الدين " وتلك قصة عظيمة أخرى أتمنى ان يأتي الحديث بشأنها قريبا .... 
كان الدكتور اسامة على علم بهذا كله ، فقد كان متابعا للشأن العام ، وكان بحكم ثقافته اقرب إلى اليسار منه إلى أي اتجاه آخر ، وان لم يكن بحكم عمله في الخارجية المصرية منغمسا في أي حركة سياسية ، غير ان غالبية أصدقائه كانوا من كتاب وصحفيي اليسار .... قلت للدكتور اسامة هذا هو السبب الأول للزعل ... ماهو السبب الثاني ؟؟؟؟ فبادرني بعد ان عدت ادراجي مرة ثانية لنجلس مع صديقه على مقهى قريب من مجلة روز اليوسف ، ليقول لي ونحن نسير عكس اتجاه ميدان التحرير " لن أقول لك السبب الثاني للزعل إلا إذا عرفت أسباب امتناعك عن الاتصال بي طوال هذه المدة ، انت مش معاك تليفوني والا نسيته؟؟؟ وبعد فترة صمت قال لي "... ياسيدي انت ملكش حجة ، انت عارف مكتبي في مبنى وزارة الخارجية اللي في التحرير اللي جنب جامع عمر مكرم ... مالكش حجة ... مش كده والا ايه .... "
وبعد ان جلسنا على المقهى المختار ... طلب الدكتور اسامة ما نشربه ، غير أنني لاحظت ان العاملين في ذلك المقهى يعرفونه حق المعرفة ، ليست معرفة شهره أو بوصفه شخصية عامة ، ولكن معرفة عشرة وعن قرب .... فهمت ذلك من واقع الأسئلة الموجهة اليه من نوعية " إيه الحكاية يا باشا ... حضرتك يا دكتور ما شفناش حضرتك من أكثر من شهر ؟؟؟؟ فيبتسم الدكتور اسامة ويقول لعامل المقهى " وعملي فيها مثقف انت مش عارف ان لا يمنعني عن المجئ إلا الشغل ..... " لا حظت انه لم يأتي على سيرة انه كان مع الرئيس السادات في كامب ديفيد ..... غير ان العامل الحصيف فهم ما يقوله الدكتور اسامة .... قائلا له " خلاص يا باشا انا عرفت إيه اللي منعك عننا ""..... قالها الرجل وتركنا في حال سبيلنا ، ولم يعود إلينا إلا ليجدد الطلبات أو يأتي باكواب من الماء ..... 
تحدثت وقلت له " انا بداية غلطان .... ولكن اسمح لي ان أقول لحضرتك تقديري أو تفسيري لسبب الغياب أو قل الابتعاد ، ربما تجد فيما اقوله تفسيرا او قل تبريرا .... تعرف أنني عضو في حزب التجمع ، وقد أسست مع عدد من زملائي الأعضاء السابقين في منظمة الشباب ( اتحاد الشباب التقدمي ) داخل حزب التجمع الذي اعلن رسميا كحزب في أبريل من عام ١٩٧٦ .... " فرد علي قائلا " اعرف انك سكرتير اتحاد الشباب والأخ عبد الغفار شكر هو مقرر الاتحاد ، اتحاد الشباب ...." ... آمنت على كلامه . ولكن أضفت اليه مالم يعرفه احد ، فقلت له " ... حضرتك عارف أو ربما مش عارف .... ولم يتركني أكمل كلامي قائلا : بلاش حضرتك دي .... !!!؟؟؟ كنت قد لاحظت امتعاضه من هذا الوصف في بداية الحديث ... قلت له " طيب يا دكتور .... قال على الفور " دي أحسن .... أتفضل كمل ... " قلت له ..." في يناير عام ١٩٧٧ تم اعتقالي خلال الانتفاضة الشعبية ، التي اسماها العالم انتفاضة الخبز وأسماها الرئيس السادات انتفاضة الحرامية !!! أظنك تعرف ما حدث .... فقد كانت هناك قضية التظاهر وقضية التنظيمات .... انا كنت ضمن أعضاء القضية الثانية ، انا كنت متهما في القضية الثانية بوصفي وفق تقارير مباحث امن الدولة قياديا في واحد من التنظيمات الماركسية .... وهذا كما تعلم غير حقيقي بالمرة ، فلم ادخل عمري في أي عمل سري ..... دا انا ، وأنا الناصري ، رفضت الانضمام الي التنظيم الطليعي ، تنظيم عبد الناصر ، وذلك من خلال دعوة غير مباشرة من الدكتور فؤاد محيي الدين حين كان محافظ الشرقية ، وذلك اثر مظاهرات طلبة الجامعات عام ١٩٦٨ ، والتي افصح عن رغبة قيادته في التنظيم الانضمام إلى قطاع الشباب في التنظيم الطليعي على نحو ما ابلغني ، ذلك المهندس احمد حمادة مسئول الجامعات في التنظيم الطليعي ....." .... لاحظت الاهتمام على وجه الدكتور اسامة ، ورغبة واضحة في الاستماع .... غير انه بادرني بالقول ... الذي اعرفه ان قرار الاتهام ، في قضية التنظيمات جاء على ذكر ١٧٦ اسما لم تكن انت منهم .... وفي ضوء ذلك تم الإفراج عنك بعد نحو سبعة اشهر من الاعتقال .... آمنت على كلامه وقلت له " ... انا خرجت من معتقل طرة وتحديدا من عنبر التجربة يوم الثاني من يوليو عام ٧٧ .... لكن السبب الذي منعني من الاتصال بك .... هو حادثة. لافتة .... وأنا في يوم اعتقالي ، وفي داخل السيارة التي كانت تقلني من قسم حدائق القبة إلى سجن طرة , ان أوقف ضابط المباحث السيارة ، وأتذكر اسمه لانه رجل غاية في النبل والشهامة ، اسمه " رؤوف حمدي " ان قال لي : صلاح .... إحنا دلوقت داخلين على أقذر وأوسخ رجال المباحث ، مباحث السجون .... قال هذا الكلام بعد ان ارسل في حركة مقصودة السائق بحجة شراء سجائر له وبعض الطعام ، له ولي ... أظنه بسكو مصر .... قال لي هذا المحترم " انت فتشت في بطاقتك فيها إيه ؟؟؟؟ قلت له كلمة واحدة " لا .... " قال " اعطني إياها ،قالها بالعامية المصرية طبعا .... وعند الفحص وجد بعض الكروت الشخصية لعدد من الأصدقاء ، منهم الكارت الشخصي لك ..... لم يتوقف الرجل عند باقي الكروت ، فقال لي وبلهجة مفاجئة ونقية " .... يا نهار اسود كل دول .... دا كلهم مطلوب القبض عليهم ؟؟؟؟ تسمح لي أقطعهم .... ولكن قولي : إيه اللي عرفك بالدكتور اسامة الباز ؟؟؟ دا انت كده ها توديه في داهية .... انت مش عارف ان له منصب كبير في الخارجية !!!! أرجوك أنساه خالص .... منصبه لن يرحمه .... انت اخترت طريقك ، وانت عارف تكلفته .... الدكتور اسامة ، شخصية وطنية ، واعرف انه له دور مهم في وزارة الخارجية ... أرجوك ابعد عنه ... ." انتهى كلام هذا النبيل في الساعات الأولى من فجر ٢١/ ٢٢من يناير عام ٧٧ ... وبعد ان انتهيت من كلامي قال لي الدكتور اسامة " وسمعت كلامه ليه ؟؟؟؟ ترك عتابه الجميل والنبيل أطيب واجمل الأثر في نفسي ، حتى ان كلماته تلك تثير الشجن في نفسي كلما تذكرتها ، وبعد قرابة اربعين عاما من ذلك الحدث ... فكم كان هذا الإنسان نبيلا وعظيما إلى ابعد حد .....
قلت ما وجدته تفسيرا لموقفي .... " أولا وكما قلت لك في بداية الحديث انا غلطان . ولكن ربما لم تسألني لماذا أخذت كلمات. هذا الرجل مأخذ الجد ؟؟؟ لقد حماني من خطا خطير وقعت فيه لحظة القبض علي ، تتذكر عندما كنا معا في موسكو عام ٧٣ ؟؟؟؟ وفي فندق موسكوفا الذي يطل على الكرملين من جهة ووزارة التخطيط من جهة ثانية ، ان أتيت لك بمجلة " الاتحاد " الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الإسرائيلي وعليها صورة الرئيس جمال عبد الناصر في إطار تغطية هذا الحزب للعيد العشرين للثورة ؟؟؟؟؟ قال الدكتور اسامة " أتذكر طبعا .... وكنت يومها قد وجدت كما وجدت انت نفس النسخة من تلك المجلة في غرفتي ،،،، جاتني يومها تسألني الاحتفاظ بها ، وعندما لمحت رغبتك في ذلك قلت لك : مفيش مشكلة ، انا اعرف حبك للرئيس عبد الناصر ، وحبك لكل ورقة مكتوبة...!!! 
يومها يا دكتور احتفظت بهذه المجلة حتى لحظة اعتقالي .... وعندما جاءت الحملة للقبض علي لاحظ ضابط المباحث هذه المجلة ,,,, وقال لي " ... بأنهار اسود كده بقت قضيتين ..... قضية شيوعية. وقضية الاحتفاظ بمنشورات ومطبوعات إسرائيلية ..... !!؟؟؟ يومها لاحظ ان الصفحة الأولى بعد الغلاف عليها توقيعك ورقم تليفونك .... واعتقد انه ظن ان المجلة تخصك ولا تخصني ... وعندما سألني عن امتلاكي ليها ، وقلت له أنني صاحبها ولا دخل للدكتور اسامة .، ان قال لي " طيب أخفيها في أي داهية ..... " وعندما نزلت معهم من مسكني في حدائق القبة ، لم تكن تلك المجلة من المضبوطات ...... حينها عرفت ان هذا الرجل شديد الاحترام ، وهو ما دعاني للبحث عنه بعد خروجي من الاعتقال .... لقد عرفت يا دكتور ، انه لم يكن من رجال مباحث امن الدولة!!!!! كان من افضل الشخصيات في إدارة الرقابة على الصحافة والمطبوعات التابعة لهيئة الاستعلامات وقد تم الاستعانة به لاتساع حملة الاعتقالات التي شملت كل مصر .... 
لم يعقب الدكتور اسامة ، سوى بكلمة واحدة أو عبارة واحدة : رغم كل شئ هذا البلد عظيم ، عظيم بجد ...... ) 
صلاح زكي احمد .... ١٨ / ٩/ ٢٠١٣ ... القاهرة .


( صور متفرقة عن الدكتور اسامة الباز في يوم الرحيل ) 


الصورة الثالثة : 





"..... في قاعة الاجتماعات الرئيسية في مبنى اللجنة المركزية لمنظمة الشباب ، وهو بالمناسبة قصر الأمير عمر طوسون ، احد أبناء وأحفاد محمد على باشا ، ويشغله الآن المجلس الأعلى للثقافة .... في هذه القاعة وتحديدا في يوم ٢١ أكتوبر عام ١٩٧٣ ولم تضع بعد حرب أكتوبر نهاية فاصلة لأحداثها ، وقف الدكتور " عبد الواحد بصيلة " عميد كلية طب الأزهر ، وقتها ومساعد الأمين العام للشباب ، أي الشخصية الثانية هو والدكتور صبحي عبد الحكيم أستاذ الجغرافيا الشهير بعد الأمين العام للشباب الدكتور كمال أبو المجد .... وقف مخاطبا أمناء الشباب بكل محافظات مصر ليخبرهم عن وقائع الحرب الدائرة مع العدو الإسرائيلي والتي بدأت ظهر يوم السبت السادس من اكتوبر من عام ٧٣ .... غير ان الدكتور " عبد الواحد " الضليع في تخصصه ، بوصفه أستاذ مادة ال " هيستولوجي " أي علم الأنسجة ، لم يكن خبيرا في عالم السياسة ولا مناوراتها ودقائقها ... كان رجلا مهنيا بامتياز ، وكان نقيا طيبا إلى ابعد حد ...
المهم تحدث الدكتور " عبد الواحد " وليته لم يتحدث !!!! فقد قال كلمات لا تبعث إلى أي شيئ سوى الياس وبث روح الهزيمة ، وهو المفروض ووفق تكليف الدكتور أبو المجد ، يرفع همم مسئولي الشباب لا تشييعهم إلى محافظاتهم بروح الهزيمة .... صورة لا أنساها طوال عمري ، ودرس في معنى ودور الرجل السياسي ، فيمكن ان تكون خبيرا في علمك وتخصصك ، ولكن لا تصلح ان تكون سياسيا أو قائدا جماهيريا ..... حينها كنت جالسا بالقرب من الدكتور " اسامة الباز" ، ولم يكن يفصلني عنه سوى الدكتور " إيهاب إسماعيل " أستاذ القانون المرموق واحد أعمدة كلية الحقوق جامعة القاهرة ، وكان للعجب يغط في نوم عميق لأسباب لا يعلمها سوى الله ....غير ان كلمات الدكتور " عبد الواحد" قلبت المشهد في قاعة الاجتماعات رأسا على عقب ، فقد هب الدكتور اسامة واقفا ، يستأذن الدكتور عبد الواحد في الكلام . وبحسن نية ونقاء الرجل الذي أوردنا موارد التهلكة ؟؟!!! أخذ الدكتور اسامة الكلمة ، غير انه طلب من احد الموظفين وأظن ان اسمه " البهنساوي " ان يذهب ويأتي بعدد من اللوحات والخرائط العسكرية من سيارة وزارة الخارجية العتيقة التي يلجأ إليها الدكتور اسامة أحيانا عندما يكون الموقف جلل أو كانت المواصلات العامة من العسير استخدامها ....؟؟؟!!!! جاء " البهنساوي " بالخرائط وهو مكروش النفس ومنقطع الأنفاس ، ووجه كما يقولون " يبك الدم " الذي هو أصلا كان شديد الحمرة في الحالة العادية ....." موقف مولودرامي " بامتياز ، ولا تعرف هل يبعث على الضحك أم البكاء والخوف في ضوء ما أبلغنا بيه الدكتور عبد الواحد ....
تحدث الدكتور اسامة ، وكان موجودا في داخل القاعة ، ولا اعرف لحسن الحظ أو لسوءه عدد من مراسلي الصحف الأجانب .... وبلغة عربية سليمة وبذكاء نادر ، ورقة غير عادية تفضل الدكتور اسامة ، فمسح بكلام الدكتور عبد الواحد الأرض ، دون ان يشعر الحضور بذلك ، وبغير إساءة لزميله الكبير .... 
كان الحديث وقتها عن نجاح جنرال الحرب الإسرائيلي " شارون " في أحداث ثغرة في صفوف الجيش الثالث الميداني واتجاه قواته لاحتلال السويس .... وبالشرح التفصيلي ، كانت كلمات الدكتور اسامة ، وبالإشارة إلى الخرائط التي حملها من القيادة العامة أو الخارجية المصرية ، لا اعرف مصدرها تحديدا ، قال الدكتور اسامة ، " ان أوضاع القوات على الأرض لا تمكن شارون من تحقيق مخططه .... ولأول مرة اسمع تعبير " ان ما يفعله شارون هو حركة تلفزيونية لا يقصد منها سوى " الشو الإعلامي " ،.... فالجيش الثاني يحكم السيطرة على كباري العبور ويتمسك بكل قواه ويضغط الآن بقوات الصاعقة وبقيادة قائدها العميد نبيل شكري على خط الإمداد الإسرائيلي القادم من الشرق....!!!! فضلا عن تمسك الجيش الثالث الميداني بكامل قواته في الضفة الشرقية للقناة وملاحقة قوات شارون بالمدفعية الثقيلة والصواريخ وآلصاعقة من جهة الشرق ..
.. وبعد ان يتوقف الدكتور اسامة عن الحديث بالعربية يتوجه إلى المراسلين الأجانب لينقل بالانجليزية ما قاله ،بالعربية يعود وببراعة مطلقة إلى الخرائط التي جاء بها ليستكمل الشرح ..... كنت حينها أتابع كل كلمة يقولها الدكتور اسامة وباهتمام شديد لأسباب نفسية وعملية ، فقد كنت وقتها مهتم إلى حد الجنون بدراسة الفكر الاستراتيجي بمدارسه المختلفة ، ابتداء من عميدهم الصيني ( سان تزو والبروسي أي الألماني كلاوزفيتز وحتى الفرنسي أندريه بوفر ) فضلا أنني كنت مكلفا انا واحد الزملاء بإصدار نشرة يومية تحمل وقائع الحرب وتوزع جماهيريا على كل أفراد الشعب اسمها ( الشباب والمعركة ) كان حديث الدكتور اسامة مادة خصبة وغزيرة تفيد في ما نقدمه من معلومات ..... 
في داخل القاعة بدا المشهد مختلفا ، فقد مسحت وجوه الحضور لإقراء ملامح الوجه وما تحمله من تعبير ..... الجميع في حالة من الانتباه النادر ... والجميع كان يسجل ما يسمعه بكل اهتمام ..... حتى الدكتور " إيهاب إسماعيل " استيقظ من سباته العميق ، وتحت تأثير صدمة الاستيقاظ وعدم وصوله إلى مرحلة الوعي الكامل ، كان بين الوقت والآخر يسألني " هو اسامة بيقول إيه ؟؟؟؟" واجيبه بصوت خافت وكلمات مقتضبة حتى لا تفوتني كلمة من حديث الدكتور اسامة .واقول له " كان بيقول كذا وكذا " ولا أطيل ... أما الدكتور اسامة ، لم يبخل هو من جانبه بتوجيه نظرات سريعه إلى حيث اجلس ويقول بذكائه الحاد مستخدما احد لوازمه في الكلام قائلا في ختام معلومة وردت في حديثه " ..... مش كده ولا إيه يا صلاح ؟؟؟؟..... كنت اعرف ان الملاحظة لم اكن المستهدف منها ، ولكن زميله الكبير الآخر الدكتور إيهاب إسماعيل هو المقصود .... أما الدكتور عبد الواحد ذلك الفلاح الطيب ، وللحق يقال ... كان أكثر الحضور اهتماما وتسجيلا لما يقوله الدكتور اسامة .... لم تأخذه الغيرة أو حتى خطا كلامه إلى الخروج من القاعة بدعوى وجود تليفون عاجل أو ما شبه ، بل لاحظت رفضه لهمس الأستاذ البهنساوي في أذنه بالخروج لأمر هام ........ ويقول له بصوت مسموع " ياخي قول للسكرتارية . انا مش ها رد على أي تليفون إلا إذا جاء من الرئيس السادات ..... ثم يدرك أنها واسعة شوية حكاية الرئيس السادات فيقول مستدركا " يا بهنساوي اقصد أي تليفون من الدكتور أبو المجد ، انا عارف انه عند الرئيس دلوقتي !!!!؟؟؟؟ ...... 
وهكذا امتلك الدكتور اسامة ناصية قلوب وعقول واهتمام الحضور ، العرب والعجم ..... غير ان المفاجأة التي لم لم اسمع بها من قلب فجرها على النحو التالي وتكاد تكون بالحرف !!! فقد سجلت ما قاله بالكلمة والنقطة ، وانقل من أوراق كتبتها في حينها... يقول : ( ..... بعد ما أوضحت لحضراتكم الطبيعة التلفزيونية لموضوع الثغرة من الناحية العسكرية واستحالة تنفيذها على الأرض .... أقول لكم الآتي وأرجوكم الانتباه ، ولا داعي لأي سؤال تعقيبا على ما سوف أقوله لأنني باختصار لن أجيب ...!!!!؟؟؟. .... نظر الدكتور اسامة خلفه متأكدا من استمرار إغلاق أبواب القاعة مانعا دخول احد ..... قائلا " الآن كنت قادما من الوزارة ، وزارة الخارجية ، انتبهوا .... لقد اتصل الزعيم السوفيتي بريجنيف بالرئيس السادات وأبلغه ردا على اتصال الرئيس بموسكو وكان الحديث عن الثغرة ..... ان أبلغت القيادة السوفيتية القاهرة ان بريجنيف اتصل بالرئيس الأمريكي نيكسون يبلغه ان القوات السوفيتية أعلنت حالة التأهب النووي وان طلائع من قواتها في طريقها إلى بورسعيد إذا لم تامر واشنطن القوات الإسرائيلية بالتوقف عن عملياتها العسكرية في غرب القناة على الفور والقبول بوقف إطلاق النار الذي طالب به المندوب السوفيتي في مجلس الأمن ....... !!!!!
انتهى الكلام الخطير الذي لم يسمع به احد خارج القاعة والذي تأكد بعد ذلك بسنوات في كتب ومراجع محدودة لعل اهمها مذكرات مستشار الأمن القومي الأمريكي وقت الحرب هنري كيسنجر والمسماة " سنوات البيت الأبيض "..... وبدا الحضور مشدودا لما سمع ، بل ان البعض احتضن من يجاوره فرحا واطمئنانا ...... وبعد فترة صمت سمعنا الدكتور عبد الواحد يقول بصوت تتخلله العبرات وتدافع الدموع من عينيه ( الحمد لله الحمد لله. الحمد لله ) قالها ثلاث مرات .... ثم نظر معاتبا إلى الدكتور اسامة قائلا له " ما كنت قلت الكلام الحلو ده من زمان يا سامة لتريحنا بها !!!! " وبذكاء نادر وبخفة دم مصرية كان يتسم بها رحمه الله ... رد على الدكتور عبد الواحد ( دكتور ..... نحن لا نستريح إلا بالصلاة ) في إشارة إلى حديث الرسول إلى سيدنا بلال مؤكدا على قيمة ومقام الصلاة عندما كان يقول له سيد الخلق ( أقم الصلاة .... أريحنا بها يا بلال ).........
صلاح زكي احمد ......القاهرة في ١٦ / ٩ / ٢٠١٣ ...

 ( صور متفرقة عن الدكتور اسامة الباز مع يوم الرحيل ) 


الصورة الثانية : 




.... ( .... في الأول من أبريل من عام ١٩٧٣ وصلت الطائرة الروسية المدنية العملاقة من طراز " تي يو " إلى مطار موسكو الدولي قادمة من القاهرة ، تقل وفدا من الشباب المصري للمشاركة في احتفالية مشتركة مع شباب منظمة الشباب السوفيتي المسماة " الكومسمول " .... كانت تلك الاحتفالية تسمى مهرجان الشباب العربي / السوفيتي ، وبدت مظاهر الحفاوة التي أحاطت بالوفدالمصري كبيرة وهو الأمر الذي فسرته بانه رسالة من القيادة السوفيتية حينها بانها " رد ذكي ومهذب " على خطوة الرئيس السادات بإنهاء مهمة الخبراء السوفيتي في الجيش المصري والتي كان قد اتخذها في يوليو من عام ١٩٧٢ ..... وقتها كنت واحدا من أعضاء الوفد السياسي الذي يضمه هذا الوفد والذي كان يرأسه الدكتور اسامة الباز ، غير ان الدكتور اسامة ، وكان وقتها مسؤولا كبيرا في الخارجية المصرية ، أظن انه كان مديرا للمعهد الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية لم يكن معنا على متن نفس الطائرة ، ..... وعرفت بعدها انه كان مكلفا بشرح وجهة النظر المصرية لهذه الخطوة المفاجئة من الرئيس السادات تجاه الصديق السوفيتي ، والتي اسماها الرئيس نفسه بانها وقفة مع الصديق ... 
المهم وصل الدكتور اسامة إلى مدينة " لينينغراد " العريقة والتي تسمى الآن " سان بطرسبورج " ومنها إلى العاصمة موسكو ليلحق بنا .... وفور وصوله أعدنا مراجعة الأبحاث التي سنقدمها في الندوة المشتركة مع الجانب السوفيتي ، كنت وقتها قد أعددت بحثين الأول عنوانه " نحو فهم أعمق لقضية الصراع العربي الإسرائيلي " و" الثاني عنوانه " التناقضات الطبقية عند التحول إلى الاشتراكية في دول العالم الثالث ." ... وفي يوم الندوة التي ضمت أعضاء كبار من قيادات الشباب السوفيتي وعدد من المرشحين لعضوية المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي ، وهذا بحسب هذا الزمن موقع قيادي كبير ، ففي مقدور الواحد من هؤلاء ان يتخذ قرارات كبيرة دون الرجوع إلى احد !!!!
المهم عقدت تلك الندوة في احد قاعات الكريملين ، قلعة الحكم والقيادة زمان وحتى الآن ،..... في أجواء القاعة الفخمة والعريقة التي تجسد عظمة القياصرة ، تحدث الدكتور اسامة الباز ، وكانت المفاجأة انه شخصية معروفة ومشهورة لدى كل الحضور ، فقد لقي من الحفاوة ما آثار فضولي ، وسألته حينها عن السبب .... فأجابني انه يأتي إلى موسكو كثيرا بوصفه من كبار موظفي الخارجية المصرية ، فضلا عن روابط صداقة قوية تربطه بالسفير المصري آنذاك ، الدكتور " مراد غالب " احد اهم السفراء في تاريخ وزارة الخارجية المصرية .... 
تفضل الدكتور اسامة بتقديمي للحضور قبل إلقاء البحث الأول لي عن " الصراع العربي الإسرائيلي " بكلمات اعتز بها مدي الحياة ، فقد كان رحمه الله يتوسم في خيرا ...... غير ان الذي لفت نظري انه قدمني قبل ان يقدم هو بحثيه ، وتلك شيم وأخلاق الكبار .... كان الدكتور اسامه قد اعد بحثا عن " سياسة الوفاق الدولي بين أمريكا وروسيا وأثرها على الوضع في الشرق الأوسط بعد حرب ٦٧ " كان بحثا عميقا وشجاعا وناقدا للسياسة السوفيتية بجراءة وبقوة.... لم يتوقف عند مقتضيات الضيافة والحفاوة التي لقيها الوفد المصري ، فقد قدم نقده مدعما بأرقام وتواريخ ومواقف كان من الصعب ان يرد عليها الجانب السوفيتي بسهولة ، مما دفعهم إلى الاكتفاء بما قدمه الدكتور اسامة ، وقدمته من بحث قبل ذلك . ، فبادروا برفع الجلسة للاستراحة ، غير أنني لاحظت اختفاء بعض من أعضاء الوفد ، وهو الأمر الذي دفعني لسؤال الدكتور اسامة عن ذلك ، فقال لي وبلغة الخبير " أوعى تتصور ان هؤلاء الناس غير مستعدين بتقديم بحث عميق ولائق ..... ثم سكت برهة قبل ان استوضحه بالمزيد ... فوجئت بقوله " ما قدمته يا صلاح من نقد للفهم الخاطئ في بعض دول العالم الاشتراكي لحقيقة الموقف تجاه قضية الصراع العربي الإسرائيلي ما يستوجب الرد ، خذ موقف رومانيا المساند لإسرائيل ، وخذ بعض التصورات الصادرة من بعض المسئولين السوفييت الآن ؟؟؟.... حينها انفجرت في الضحك وقلت له " معقول يا دكتور اسامة ما تقوله تعليقا على ما قدمته ، انا ؟؟؟؟ آمال ما قدمته حضرتك ها يقولوا عليه إيه ....؟؟؟؟ وبكل تواضع العالم ، ابتسم ضاحكا وقال " ربما ، ربما " قالها بالعربية والانجليزية .... 
وعند بدء الحوار في جلستنا الثانية ، بادر الدكتور اسامة بتقديمي لكي اقدم بحثي عن التحول الاشتراكي .... وقام معي ب " الواجب " مرة ثانية !!! مسبغا على ما قدمته ما افخر به وأعتز .... وعندما رددت عليه بالشكر ، رد علي ( صلاح .... البحث جيد جداً.... ثناء الدكتور أبو المجد في مكانه ) .... شكرته على نبل أخلاقه ، وتفسيري انه كبير علما وخلقا ، وكنت من سعداء الحظ ان جمعني به في مرحلة من أجمل مراحل العمر .....
المهم ان بادر الجانب السوفيتي بالرد على ما قدمناه ، وبدا الجهد فيما قدموه ، وتلك قصة أخرى سوف اعرض لها عندما يحين وقتها .... غير ان المفاجأة المذهلة التي أدهشت الجميع ان عقب السوفييت على ما قدمه الدكتور اسامة في بحثه الثاني وكان عنوانه " مخاطر الانغلاق السوفيتي على العالم ، حرية الصحافة نموذجا " كان بحثا طلائعيا ومبكرا لازمة الحرية في التجربة السوفيتية !!؟؟؟ .... كان جرس إنذار لما سوف تؤول اليه التجربة السوفيتية بعد نحو عشرين عاما ...؟؟؟ فقد كانت قضية الديمقراطية وحرية الراي وتعدد المنابر الصحفية وغيابها سببا جوهريا للانهيار وان لم يكن السبب الوحيد .... لقد انهارت الامبراطورية ، امبراطورية " لينين " و " ستالين " وقياصرة الكريملين الجدد ...
المفاجأة كانت هذه المرة من جانب السوفييت ومن " العيار الثقيل " كما يقال عادة في أيامنا تلك ،،،،، تحدث كبيرهم ، وبعد ان قدم ردودا دقيقة لم قدمناه .... ابتسم وقال " دكتور اسامة ما سمعناه في تلك الجلسة ، والجلسة السابقة هو حوار بين أصدقاء وليس معركة بين أعداء ..... دكتور اسامة ، لقد سبق ان قدمت لنا الكثير نصحا وتوجيها وإرشادا .... فعليك ان تكمل " جميلك " كما يقولون في الثقافة العربية .... ثم سكت الرجل وكان السكرتير العام لمنظمة الشباب السوفيتية والقيادة المقربة من السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفيتي " ليونيد بريجنيف ، كان شخصا تجتمع عنده كلما صفات القيادة ....... سكتنا جميعا في انتظار هذا الجميل الذي طالب يه هذا المسئول الكبير .... بعد لحظة صمت قال " ... دكتور اسامة ، نطلب منك ان تقدم هذه المحاضرة أمام طلاب معهد الدراسات الدولية ، لكي يعرفوا جوانب النقص في تجربتنا في بناء الاشتراكية " ... ثم سكت الرفيق السوفيتي الكبير وكشف عن المفاجأة الكبيرة " دكتور اسامة ، لا تنسى انك أستاذ في الدبلوماسية وقد سبق ان قدمت أمام طلاب هذا المعهد وهم سفراء الغد أكثر من محاضرة وبالتنسيق مع الخارجية المصرية ....!!!..... " يعني انت صاحب فضل وصاحب بيت " ... كما تقولون في مصر ..... 
صلاح زكي احمد .... القاهرة في .... ١٥ / ٩/ ٢٠١٣ ......

صور متفرقة عن الدكتور أسامة الباز مع يوم الرحيل


الصورة الأولى : 

في مبنى اللجنة المركزية لمنظمة الشباب في ( ١١ شارع حسن صبري في حي الزمالك بالقاهرة ) ..... كان الدكتور أسامة الباز قد جاء بعد سنوات من حصوله على الدكتوراه في القانون من جامعة " هارفرد " الأمريكية العريقة ، ليتولى مسئولية سكرتير العلاقات الخارجية باللجنة المركزية للشباب ، كان المجئ مرتبطا بالدكتور " كمال أبو المجد " أول أمين للشباب في عصر الرئيس السادات ، وتحديدا في سبتمبر عام ١٩٧١ ..... كنت وقتها قادما من مدينتي الزقازيق ، وباختيار الدكتور أبو المجد ، لكي اعمل في نفس اللجنة المركزية في سكرتارية التثقيف " مسئولا عن الدراسات والبحوث وإعداد وكتابة البرنامج التثقيفي لعشرات اللآلآف من الشباب أعضاء منظمة الشباب .... وتلك قصة أخرى أتمنى ان يتاح الزمن والوقت لكتاباتها ...... المهم جاورنا الدكتور أسامة في نفس المبنى انا وبعض زملائي ، فقد كان الرجل دمث الخلق غزير الفكر واسع الثقافة .... كان يتحدث في الفن بكل صوره حديث الخبير المطلع ، اهتمام يبلغ حد العشق للفنون التشكيلية ومعرفة مذهلة بالمدارس الفنية من تكعيبية وسريالية وطبيعية وتجريدية ، وكان حريصا على الدوام لمصاحبته خلال زياراته المتعددة للمعارض الفنية ، ولحسن الحظ أنها كانت قريبة من مكان عملنا ، اغلبها كان في حي الزمالك ، وبعضها في الجامعة الأمريكية بقاعة " ايوارت " وعدد من صالات العرض بشارع قصر النيل ،،،، غير أننا فوجئنا بحرصه على ان يصحبنا للتعرف على كبار الفنانين من أمثال " صلاح طاهر وحسين بيكار وجمال كامل وحسن فؤاد وبهجت عثمان ومحي الدين اللباد وغيرهم ..... لم تتح لي بطبيعة الحال ان اسعد بلقاء كل هؤلاء النجوم بصحبة الدكتور أسامة ، ولم يكن المانع من جانبي تكاسلا أو إهمالا ، بل كان الدكتور أسامة ، برغم علمه وانضباطه الشديد رجل المفاجآت السارة ، ففي وقت عارض يقول " انا ذاهب الآن إلى الفنان الفلاني أو الكاتب العلاني أو سوف أتوجه حالا إلى مشاهدة مسرحية في المسرح القومي ....مين اللي يجي معايا !!!! وهكذا .... إذا كنت سعيد الحظ اذهب معه انا وزميل عزيز هو الأستاذ " جمال شاهين " الذي وصل إلى درجة السفير فيما بعد بوزارة الخارجية المصرية .... أما إذا كنت في رحلة عمل خارج القاهرة ، لا أنال شرف الصحبة ولا جمال اللقاء المرتقب بواحد من هؤلاء القمم .... 
ذكريات رائعة تثير الشجن في النفس ، فقد كان الرجل في داخله شخصية المعلم والأستاذ والحب العميق لجيلنا ، وسألته يوما لماذا هذا الحرص على ان نصحبك حيث لقائك مع هؤلاء الكبار ؟؟؟؟ قال لي يومها " انتم جيل بلا أساتذة ،،،، هؤلاء هم أساتذتي في الحياة ، وهم جيل الوسط بعد جيل العمالقة مثل العقاد وطه حسين واحمد أمين وهيكل باشا فضلا عن مختار وسيف وانلي وأدهم وانلي ومحمود سعيد ....." .... يسكت ويقول " انتم جيل يتيم ، وأنا لا أريد ان تكونوا جيلا ضائعا !!!! أعرفكم بهؤلاء لأنكم لن تجدوا أمثالهم في الجامعات إلا فيما ندر ... وفجاءة يتوقف ويقول هل تعرفون الدكتور محمد أنيس المؤرخ الكبير وشقيقه الدكتور عبد العظيم أنيس المناضل اليساري عالم الرياضيات المرموق ؟؟؟؟ نجيب ونقول " نسمع عنهم ونقرأ لهم لكن لم نراهم !!!! يقول" غداً نراهم بإذن الله .... ثم يسرع بالقول ولا خليها للصدفة ، يمكن أعرفكم على الدكتور زكي نجيب محمود وتلميذه النجيب الدكتور فؤاد .... وتسأله نحن من هو الدكتور فؤاد هذا ؟؟؟؟ هل هو فؤاد مرسي ؟؟؟ يضحك من جهلنا ، ويقول انتم أيها اليساريون لا تحبوا إلا زعمائكم ، على أي الأحوال الدكتور فؤاد مرسي صديقي . والمشوار من هنا اليه سهل جداً فهو من سكان الزمالك حيث نقيم ... عايزين تزوروه ؟؟؟؟ انا جاهز .... كان يقولها بلكنته المحببة إلى النفس وبلغة عربية فصيحة ..... كان رحمه الله يذكرك بعمنا نجيب محفوظ ، وهو بالمناسبة احد أصدقائه ، يمزج بين الفصحى والعامية المصرية بصورة مدهشة ..... ولكنه يسرع ويقول ( اقصد ياجهبذ انت وهو الدكتور فؤاد زكريا ، أستاذ الفلسفة العظيم ..... أرجوكم اقراءوا مؤلفاته قبل ذهابنا اليه ، ان أكبر ما يسعد الدكتور زكريا هو ان تناقشه في مؤلفاته ..... ولا يتوقف عطاء الدكتور أسامة عند هذا الحد .... فيبادر بسؤالي " صلاح عندك مؤلفات الدكتور فؤاد ؟ لو مفيش قولي بكرة احضر لكم بعض من أعماله ..... أجيبه " عندي بعض مؤلفاته مثل التفكير العلمي وكذلك كتاباته النقدية عن الحركة الإسلامة ، فضلا عن دراساته في مجلة الفكر المعاصر ....... كان يرد بسرعة ممتاز ، ممتاز .... ذاكر انت وجمال علشان ترفع رأسنا ، انت وهو ....
لكننا وبحكم السن . وبعض من نقاء الشباب ، أو بالتحديد شقاوة تلك السن " كنا نضحك في سرنا عندما كان الدكتور أسامة يذكر الدكتور فاروق الباز ..... ويقول لنا انه شقيقه ....ويردف بالقول انتم مش مصديقين والا ايه ؟؟؟.... ويضيف لزمة من لوازمه " مش كده والا ايه ؟؟؟؟ ...فنؤمن على قوله دون اقتناع ...." فلة أدب مننا بلا شك !!!"... كان وقتها الدكتور فارو ق ملأ السمع والبصر ، كان هو العالم الذي حدد للأمريكان في مشروع ابولو لغزو القمر أي موضع يهبط " نيل ارمسترونج وزميله على سطح القمر !!!! كانت تلك( الخطوة البسيطة لإنسان الكبيرة للبشرية ) امتلكت خيال الدنيا ، وارتفع اسم الدكتور فاروق الباز إلى عنان السماء ، حتى ان الفنان العظيم " يوسف شاهين جعل من " الباز" العالم نموذجا يحتذى في فيلمه "عودة الابن الضال ..." ...... حينها كان الدكتور اسامة يقول " أخويا فاروق عمل كذا ، وقال كذا ، وقابل الزعيم الفلاني امس ..... إلا أننا كنا نستمع إلى الدكتور اسامة ، ونحن غير مصدقين ، ونقول في سرنا ربما يكون قريبه أو من قريته !!؟؟؟ معقول هذا الإنسان المتواضع شقيق هذا العالم ، صحيح الدكتور اسامة مثقف جداً ، بس مش للدرجة دي ، انه أخو الدكتور فاروق ؟؟؟!!! وبذكائه الحاد كان يلمح ما يدور في داخل عقولنا القاصرة ؟؟؟؟؟ ويقول بكرة ها تصدقوا، دا انا مش شقيقه بس ، دا انا اخوه الكبير ...... 
وتمر الأيام ويصدق الدكتور اسامة فيما قاله ، بل يحكي الكتور فاروق عن شقيقه ما ينم عن فضل ورياده ، فيقول " كنا قبل قيام ثورة يوليو بقليل نقوم بمظاهره ضد الملك فاروق فيقبض على المئات من الشباب وكنت انا واحدا منهم ، وعند مثولنا أمام وكيل نيابة الأزبكية وبعد سؤالي عن اسمي ، يقول لي " هو انت تقرب للمستشار اسامة الباز ، وكيلة نيابة الموسكي ؟؟؟ فقلت له " هو أخويا الكبير " !!!! سكت وكيل النيابة ،،،،، وقال لي " علشان خاطر أخوك روح بيتكم ...... وسلم عليه ...... " ....
الجميل في تلك العلاقة بين العالم وشقيقه الدبلوماسي والمفكر ، انهما كانا أصحاب اجتهادات مختلفة في السياسة والحياة ، فقد أبرما اتفاقا يرسي المحبة بين الاثنين. ، ان لا يتدخل الدكتور فاروق في الآراء السياسية للدكتور اسامة ، ومن جانبه لا يتدخل بالتعقيب على اجتهادات الدكتور فاروق العلمية .....
كان زمن الاحترام الجميل ، زمن اسامة الباز .... ) ....صلاح زكي احمد ...... القاهرة في ١٤/ ٩ / ٢٠١٣