الخميس، 4 أبريل 2013

الجزء الأول من حديث الروح وخلجات النفس

القاهرة أواخر القرن التاسع عشر

يقول الكثير من علماء الصوفية وشيوخها الأقدمين والمعاصرين ، أمثال " محيي الدين ابن عربي " صاحب الفتوحات المكية ، وجلال الدين الرومي ، وأبوالحسن الشاذلي وابن الفارض والحلاج ورابعة العدوية ومصطفى محمود وعبد الحليم محمود وأحمد الطيب ، وغيرهم وغيرهم مع اختلاف الدرجة والمكانة والعلم وتعدد الأعمار وتفاوت السنون والعقود والقرون ، يقولون " ثمة جنتان ، أحدهما في السماء ، وهي ما وعدنا بها الله سبحانه وتعالى، بعد رحلة من العمل الصالح في الدنيا مشفوعة برحمته التي بها وحدها نكون من أهلها.... ولا نتحدث هنا عن العدل الالهي ، فهو مهما أدينا وفعلنا خيرا لا نقترب من جنته الا برحمته وليس بعدله ......

أما الجنة الثانية ، عند أهل الصوفية وغيرهم من أولياء الله الصالحين ، فهي في الأرض ، وبأيدينا وحدنا صنعها ، وهو ما أسميه " حالة السلام النفسي " بالتخلي عن أغراض الدنيا الزائلة والباهتة والضائعة ، وسبيلي الى ذلك لا يتأتى الا برحلة مع النفس ليست بالصعبة أو حتى الشاقة ، فهي بعد نعمة الهداية التي يخطها الرحمن لعباده ، تغذي بالخير نفسها ، فكلما توغلت في طريق المحبة للآخرين والسلام مع البشر أجمعين يعطيك الله من رحمته ما يعينك على مواصلة الرحلة بالسلام والهداية وراحة البال

ولكي لا يكون حديثنا نظريا ، أو مشفوعا بلغة الوعظ والحكم الجاهزة ، أحاول أن أقدم ما هو عملي وانساني من واقع التجربة الانسانية لي ولغيري ، وأبدأ بواقعة الحبيب المصطفي التي نعرفها جميعا.

ففي جلسة أجتمع فيها كبار الصحابة والعشرات من عمومهم من الذي لا نكاد نعرف الا أسماء القليل منهم ، توقف الرسول الكريم عن الحديث وتطلع الى باب المسجد حيث الصحابة حول الرحمة المهداة يستمعون ويتعلمون ، قائلا لهم " الآن سوف يدخل عليكم رجل يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله " بعد دقائق دخل الرجل الذي قصده الرسول الذى ألمح اليه بعينه الشريفة بأنه هو المقصود.
وكانت المفاجأة أن هذا الصحابي كان من آحاد الناس ، فلم يكن أبوبكر ولا عمر ولا عثمان ولا حتى علي ، كان من عامة الصحابة ومن أبسط الرجال ، حتى أن الكثير من كتب السيرة لا تتوقف كثيرا عند اسمه ، لأن المقصود ليس الشخص ولكن الدرس ..... المهم أن واحدا من كبار الصحابة وأظنه الامام " علي بن طالب " وليس أيضا من المهم من يكون، طلب من هذا الصحابي الجليل أن يصحبه الى منزله طالبا منه ضيافته لثلاثة أيام كما تنص حقوق الضيافة في شرع الاسلام .... وببساطة وافق الرجل على الطلب المقدم من زميله مختلف المكانة والموضع عنه ، بل بدت الفرحة غامرة لتلك الزيارة المرتقبة والتي هبطت عليه من السماء مشفوعة بالمحبة والكرم المنتظر

ذهب هذا الصحابي الكبير مع زميله الجليل ، وفي داخله قرارا وسؤالا ، أما القرار فهو المتابعة الدقيقة لسلوكيات زميله في بيته وبعيدا عن أعين الناس ، أما السؤال ، فهو يأتي في أعقاب المتابعة والفحص والدرس

المهم مرت الأيام الثلاثة ، وبعد الصلاة وجه الضيف السؤال المنتظر لصاحب البيت ، " أخي لقد وصفك الرسول بأنك رجل تحب الله ورسوله ويحبك الله ورسوله ، وأنت على هذا النحو ستكون باذن الله من الموعودين بالجنة. لقد تابعتك في كل تصرفاتك وكل عباداتك ، فتصلي كما نصلي وتصوم كما نصوم وتقوم احيانا الليل واحيانا لا تقوم وأراك تقرأ القرآن دون توسع او ارهاق ، خلاصة الأمر يا أخي أنك " مسلم عادي" فثمة عمل آخر لا نعلمه تقوم به ، وبسببه وصفك نبينا الكريم هذا الوصف وتلك المكانة التي نغبطك عليها جميعا ، وأنت بالطبع تعرف معنى الغبطة ، وهي كما أخبرنا سيد الخلق ، هي الحسد المحمود ، كطلب المال لإنفاقه في سبيل الله كما فعل عثمان رضي الله عنه ، أو صحبة الرسول ،كما نالها سيدنا أبو بكر الصديق أو رجاحة الرأي وقوة المشورة كما أنعم بها الله على " ابن الخطاب "....وهكذا وهكذا.

سكت الرجل ولم يجد جوابا لذلك السؤال المفاجئ على واحد من أمثاله لم يدعي علما ولم يحتل مكانا أو يملك جاها أو مالا .... المهم تحدث وتحدث بعفوية ودون أدني ترتيب في الآراء أو الأفكار ، وفجأة قال " يا أخي أنا أنام كل يوم ولا أذكر طوال هذا العمر وحتى قبل أن ينعم علي الله بنعمة الاسلام أن كرهت أحدا أو حملت حقدا على أحد أو نظرت بعين الحسد على رزق أعطاه الله لصديق أو جار أو قريب ، بل دعوت الله أن ينعم على من أعرفه ومن لا أعرفه بالصحة والسعادة.... باختصار يا أخي " أنام كل يوم على هذا الحال ، واستقبل يومي على هذا الحال ، وأختم ليلي على هذا الحال " …

استمع الصحابي الكبير لزميله المتواضع البسيط النبيل ، وبعد أن فرغ من الحديث الفطري النقي ، توقف عن المتابعة واضعا يده على ركبتي صاحبه ماسحا على رأسه قائلا له كلمة واحدة " انها هي ،انها هي " تلك ما تتفوق به على الآخرين ، وبهذه لك المكانة التي منحك اياها رسول الله ( أنك تنام كل يوم سالما لا يعرف الحقد والكراهية طريقا الى قلبك وتصبح على هذا الحال ، ألم تعرف أن الرسول أختصه الله برحمته وهو طفل ابن ست سنوات ، وأرسل اليه جبريل عليه السلام ، ليشق صدره الكريم ويخرج من قلبه الشريف مضغة سوداء ليطهر قلبه من أمراض البشر ، ويجعل من قلبه سكنا للرحمة المهداة ... أنت يا أخي أعطاك الله بعض.... أقول بعض من نعمة لم يعطها الله الا للقليل من عباده المخلصين.

ترك الصحابي الجليل صديقه النبيل عاقدا العزم على أن يكون على الدرب من السائرين ....أما الصحابي البسيط النبيل فقد وقع في بحر من الدهشة والكثير من الحمد ، وبعدها قام للصلاة .... فهل نحن قادرون على فعل وسلوك الأولين الأكرمين؟

هناك تعليق واحد:

  1. فتح الله عليك :) و جعلك و ايانا منهم و من ورثة جنة النعيم

    ردحذف