الأحد، 14 أبريل 2013

الجزء الثالث: حديث الروح وخلجات النفس



بعد أن أدى الصحابي الكبير صلاة الشكر في منزله بعد عودته من زيارة الصحابي الجليل شاكرا الله على نعمائه وتكرمه عليه أن يكون من أصحاب القلوب النقية الطاهرة المفعمة بالايمان، والخالية من الحقد والكراهية والضغينة، استعد لأداء صلاة الظهر في مسجد الرسول وبصحبته. كان هذا الصحابي في حال غير الحال التي كان عليها منذ ثلاثة أيام، هي كل ما قضاه في ضيافة الصحابي الجليل، والذي أطلعه على سر المغفرة ومكانة المنزلة الموعود بها من سيد الخلق.

عدنا من عنده ونحن ندعو له بتمام المغفرة وكمال عمله الصالح بنقاء السريرة وطهارة القلب، غير أننا ونحن حاملين معنا بعضاً من عطر مدينة رسول الله ونفحاتها الطيبة، وجدت صديقا عزيزا للدكتور "مصطفى محمود" ينتظرني وفق موعد متفق عليه في أحد أهم ميادين القاهرة وبالقرب من مسجد يحمل اسم "مصطفى محمود". مسجد يتقاطر عليه الناس البسطاء. هذا للعلاج وذاك لطلب العلم والكثير منهم يتوجه الى الصلاة. ولدهشتي أنها كانت صلاة الظهر أيضا. كأن الله يريد ان يتحفنا بالحقيقة في وضح النهار. الا أنني وقبل الدخول على الدكتور مصطفى محمود أردت أن أستزيد من المعرفة عنه، فقد شاهدت عند عقد السبعينيات برنامجه التلفزيوني الشهير "العلم والايمان" والذي قدم خلاله مئات الحلقات التي حكت بطريقة شيقة وبديعة العلاقة بين العلم الحديث وما جاء به القرآن الكريم من آيات معجزات تكشف سر الكون وبديع الخلق وعظمة الخالق في سائر مخلوقاته. كان ما يقدمه الدكتور "مصطفى محمود" فتحا ربانيا قبل أن يكون فتحا علميا

المهم وجدت صديقي الكريم الذي تشرفت بمعرفته وأنست بحبه وتواضعه ونبله منذ زمن، وكان من ذلك الجيل العملاق الذي رافق الدكتور"مصطفى" خلال عمله في مؤسسة "روزا اليوسف" العريقة طوال عقدي الخمسينيات والستينيات وحتى مطلع الثمانينيات. بادرته بالسؤال رغم معرفتي بمدى الاختلاف السياسي بينه وبين الرجل الذي كان حديث الناس في ذلك الزمن.

صديقي، ماذا تقول عن "مصطفى محمود" مسيرته وتاريخه وابداعاته؟ بعد فترة صمت لم تطل، قال "الحديث يطول، وعلينا الآن أن نستعد لصلاة الظهر، فلنجدد الوضوء ونصلي مع الخاشعين العابدين". نظرت اليه معقبا: المصلين الخاشعين العابدين؟! لماذا لم تقل: نصلي مع المصلين وكفى؟.

رد على سؤالي وبدون تردد: "عندما تدخل مسجد مصطفى محمود، سوف تتلبسك حالة الخشوع هذه التي قصدت وصفها، حالة لا تحسها الا في مسجد سيدنا الحسين ومسجد السيدة زينب ومسجد السيدة نفيسة وباقي مساجد أحفاد رسول الله، الذي أكرم الله بلادنا بضيافتهم". لكن سرعان ما تدارك القول: لا ليسوا ضيوفا، بل هم أهل البيت وأصحاب البيت، فقد أنعم الله على مصر منذ زمن، فهي الموصوفة لكل من يحط بها الرحال أو المقام أو دخولها بأنهم ان شاء الله آمنين. قيلت لبني يعقوب وقبله الخليل ابراهيم ومن بعده أبناءه وأحفاده عليهم السلام أجمعين". 

أدينا الصلاة في وقتها، وتصافح الجمع بعد أداء الفريضة، وجلست أستمع للصديق الكريم وهو يحكي عن صاحب المسجد الذي بناه من عائد ما كتب من عشرات الكتب والكثير من التبرعات التي زادت عن كل حد، ثقةً في "مصطفى محمود" ومحبةً في شخصه. فكان أن بدأ أول أعمال الخير بافتتاح عيادة لمعالجة الفقراء من عموم الناس، سرعان ما تحولت الى مستشفى كبيرة تعددت فروعها وتكاثفت أقسامها العلاجية. هذا لأمراض القلب وذلك للباطنة وذاك للنساء والأطفال. وهكذا.. ثم سكت صديقي فجأة، وقال: مصطفى محمود، هذا المتصوف الزاهد، أعطى لنا المعنى الحقيقي للتصوف، فهو ليس دروشة وقول ماهو مفهوم وغير مفهوم من الكلام والأذكار والتسبيح، انه ببساطة خدمة الناس كل الناس، وخصوصا الفقراء منهم والمساكين وأصحاب الحاجة. لقد نجح في غرس هذا المعنى الجميل عند المئات من الأطباء الشباب، بل والأخصائيين الكبار منهم، فجميعهم يعمل متطوعا بلا أجر، ويرى في عمله شرف لا يدانيه أو يطاوله أي شرف.

بعد أن سمعت من صديقي هذا المعنى الذي ألقاه على مسامعه الدكتور "مصطفى محمود" منذ سنوات، أحسست ساعاتها أن التصوف الحقيقي هو تلك المحبة التي تخرج من الفرد لتعم وتفيض على عموم الناس. أليس هذا هو الاسلام الذي تحدث عنه الرسول الكريم في قوله الشريف "قل آمنت ثم استقم". الكلمات الاربع التي سمعها مباشرة الصحابي الكبير من سيدنا الرسول "محمد"، صلى الله عليه وسلم، سيد الخلق أجمعين، وظل يرددها ويلقي بها على مسامع من لم يسمعها مباشرة من الهادي البشير، كأنها رسالة الى العالمين.


أمنت على قول صديقي الكريم في حديثه عن رجل عاش زميلا وصديقا مقربا له لسنوات تجاوزت العقود الثلاثة حتى ترك "مصطفى محمود" العمل اليومي متفرغا لمشروعه الانساني وكتاباته المبهرة وتخريجاته المدهشة. غير أنني رغبت أن أشارك صديقي فيما جاء به من تفسيرات وسلوكيات مأخوذة عن صديقه الكبير، وأحببت أن أعترف أمامه ونحن نجلس في صحن المسجد، بأننا من أهل اليسار أخطأنا في فهم الرجل لعدة سنوات وما يحزنني أن عددا من أصدقائي لا زالوا على نفس النهج. ثم أردفت بالقول ، لقد قرأت أغلب كتب مصطفى محمود مثل: الخروج من التابوت، حوار مع صديقي الملحد، الاسكندر الأكبر، السر الأعظم، الماركسية والاسلام والتوراة، الشفاعة، رحلتي من الشك الى الايمان.. وغيرها الكثير. إلا أنني توقفت بالاحترام عند حادثة ذات دلالة تضاف الى رصيد وتاريخ هذا العبد الزاهد والعالم الكبير. انتبه صديقي إلى ما سوف أقول، وقال لي: ما هي؟ قلت على الفور: هل تذكر ما نشرته مجلة صباح الخير الصادرة عن دار روزاليوسف سلسلة الحلقات التي تقع تحت عنوان "نحو تفسير عصري للقرآن الكريم"؟ رد صديقي عليّ بالقول: أذكر طبعا والمنشورة تقريبا في عام 1968 وأرفقت برسم بديع مع كل حلقة بريشة المبدع الفنان "محمد حجي". أمنت على كلام صديقي، لكني قلت: لقد أعجبت حينها بما كتبه وأبدعه "مصطفى محمود" في هذا العمل الذي صدر بعد ذلك في كتاب طبعت منه عشرات الطبعات، وأعتبره بجانب كتابه "رحلتي من الشك الى الايمان" أهم ما كتب. نظر إليّ صديقي منتظرا الجديد.. قلت له: هذا الكتاب بجانب اعجابي الشديد به الا أنه ارتبط بذاكرتي بدرس عن تواضع العلماء، ثم معنى أو قل تفسير لا يغيب عن ذهني طوال تلك السنين. أما الدرس فهو اقتناع بل ربما أتجاوز وأقول : انصياع الدكتور "مصطفى محمود" لملاحظات الدكتورة "عائشة عبد الرحمن"، بنت الشاطئ، تلك الملاحظات النقدية والفقهية التي أوردتها على ما كتبه صديقك الكبير ، وأولها تغييره لعنوان الكتاب من "نحو تفسير عصري للقرآن الكريم" الى "نحو فهم عصري للقرآن الكريم". لقد ذكرت حينها الدكتورة أن وصف الكتاب بالتفسير العصري للقرآن هو أمر كبير، فما كتبه "مصطفى محمود" وهو غير الدارس للفقه والشريعة والعقيدة هو وصف من رجل في غير اختصاص ما كتبه، لذا فهي اجتهادات تعوزها الأسانيد الشرعية والاثباتات الفقهية. يومها تقبل الرجل هذه الملاحظات شاكرا ومصححا. حينها قال صديقي: سمعت عن هذه الواقعة من قبل ولكن ما تقوله بتلك التفاصيل هو الجديد بالنسبة لي، وما أعرفه عن سنوات الشباب والزمالة البعيدة عن "مصطفى" انه كان من الناس الذين لا يتنازلون بسهولة عن رأي أو فكرة يأتي بها أو يكتبها، ثم سكت وقال: تلك هي صفات الراسخون في العلم عندما يدركون أن ما نعرفه لا يساوي شيئا قياسا بما لا نعرفه.. فما نجهله أكثر مما نعرفه. لكنه بادرني بالسؤال: لكن ما هو التفسير الذي لا يغيب عن ذهنك طوال تلك السنين؟ قلت له: تفسيره للتصوف ومستلزماته. لقد وصف التصوف وبكلماته التي عادة ما يمزج فيها اللهجة العامية باللغة العربية الفصحى، فقال الدكتور مصطفى: التصوف هو مشغولات من الذهب والألماس ونفيس المعادن النادرة التي لا يرتديها إلا أكابر الناس، غير أنها لكي نعطيها لمن يستحقها لا بد من عرضها في أشيك وأنظف المحال، حتى يقبل عليها كل قادر وعليم بقيمتها، علينا باختصار أن "ننضف الدكان قبل عرض البضاعة على المشترين".

قلت لصديقي: هل تعلم ما هو هذا الدكان الذي يقصده الدكتور مصطفى محمود؟ قال وبكل ما يملك من اهتمام يضاف اليه كل ملامح النبل والصفاء الانساني الذي حباه به الله: لا أعرف! قلت له: هي النفس البشرية (ومسحت بيدي على صدري، في اشارة الى موضعها)، وقلت له: هنا يا أستاذي. إذا سلمت تلك النفس وتملكتك حالة من السلام الداخلي الإنساني فأنت على الطريق، أو قل على الدرب تسير. يوماً ما قال "مصطفى محمود": إني أخجل من ربي يوم ألقاه بعشرات الكتب التي خطتها يداي، ألقاه "بشوية ورق"! لا بد من عمل أقدمه للناس لكي تقبل شفاعة رسول الله "محمد بن عبد الله" فيّ وفي أمثالي ممن يطلق عليهم الناس "مثقفين ومفكرين ونخبة".

نظر صديقي العزيز الكريم الجميل في ساعته وقال: لقد أقترب موعد صلاة العصر، هيا بنا نلحق بالدكتور مصطفى محمود قبل أن يصلي وينام كما اعتاد على ذلك طوال عمره. المسافة ليست ببعيدة فالشقة التي يقطنها هنا بالقرب من مسجده هذا.

ذهبنا بسرعة لكي نلحق بالرجل قبل أن يصلي وينام، ووصلنا الى حيث نريد وطلبنا الإذن من أصحاب البيت، وبعد دقائق كنا في حجرة نوم الرجل، الذي بدا لي ضئيل الجسم وفي حال من الهزال بادية عليه، ولكنه أعطى ظهره لمن يدخل حجرة نومه ، غير مدرك أننا جئنا. غير أنني لاحظت كتاب مفكرنا العملاق "عباس محمود العقاد" والمسمى "فاطمة الزهراء والفاطميون" على السرير الذي ينام عليه مفكرنا الزاهد. نظر إلينا أصحاب البيت بكل أسف قائلين لنا: من الصعب الجلوس مع الدكتور الآن، فقد تناول الدواء وقليل من الطعام، وسوف نقوم بإيقاظه بعد نحو ساعة ليؤدي صلاة العصر، فهو لا يغادر هذه الغرفة منذ زمن. انه يعيش مع أصدقائه ومحبيه. ابن عربي والفارض والشاطبي والسهروردي والحلاج ورابعة العدوية، وغيرهم الكثير.

نظرت الى صديقي والألم يعتصرني، والأسف على ضياع هذه الفرصة يقتلني! لكنه نظر اليّ ، مبتسما ومؤنسا: "لا تحزن ولا تقلق ، فالاسبوع القادم لي موعد مع الدكتور ستكون بإذن الله معي ، خاصة أنني أعرف مدى شغفك بقراءة سيرة أهل البيت ، ومنهم فاطمة الزهراء.. وأشار الى كتاب الاستاذ "العقاد".

سلمت أمري لله، مناشدا صديقي الوفاء بوعده. غير أن المشيئة الإلهية لم تمكني من تحقيق هذا الحلم. فقد مات صديقي بأزمة قلبية وهو في سيارته وبرفقة سائقه اثر مجيئه من الإسكندرية وبعد محاضرة ألقاها في مكتبتها العريقة عن "الصحافة الاقتصادية في عصر المعلوماتية"، فقد كان رحمه الله أول من كتب عن الاقتصاد ولغة الأرقام في الصحافة العربية. مات النبيل "محمود المراغي" وبعدها بسنوات لحق به العابد الزاهد "مصطفى محمود"، رحمهما الله. فقد كانا مع غيرهما من علامات الزمن الجميل، وها نحن نتلمس الخطى لعلنا على الدرب سائرون، مطمئنون واصلون، وبرحمته نسكن حيث الشفاعة التي كان يطمع فيها كل من جعل قلبه كعبةً للحب والنقاء، وصدقه عمل نحسبه عند الله شفيعاً لنا يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى ربه بقلبٍ سليم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق