الأحد، 14 أبريل 2013

الجزء الثالث: حديث الروح وخلجات النفس



بعد أن أدى الصحابي الكبير صلاة الشكر في منزله بعد عودته من زيارة الصحابي الجليل شاكرا الله على نعمائه وتكرمه عليه أن يكون من أصحاب القلوب النقية الطاهرة المفعمة بالايمان، والخالية من الحقد والكراهية والضغينة، استعد لأداء صلاة الظهر في مسجد الرسول وبصحبته. كان هذا الصحابي في حال غير الحال التي كان عليها منذ ثلاثة أيام، هي كل ما قضاه في ضيافة الصحابي الجليل، والذي أطلعه على سر المغفرة ومكانة المنزلة الموعود بها من سيد الخلق.

عدنا من عنده ونحن ندعو له بتمام المغفرة وكمال عمله الصالح بنقاء السريرة وطهارة القلب، غير أننا ونحن حاملين معنا بعضاً من عطر مدينة رسول الله ونفحاتها الطيبة، وجدت صديقا عزيزا للدكتور "مصطفى محمود" ينتظرني وفق موعد متفق عليه في أحد أهم ميادين القاهرة وبالقرب من مسجد يحمل اسم "مصطفى محمود". مسجد يتقاطر عليه الناس البسطاء. هذا للعلاج وذاك لطلب العلم والكثير منهم يتوجه الى الصلاة. ولدهشتي أنها كانت صلاة الظهر أيضا. كأن الله يريد ان يتحفنا بالحقيقة في وضح النهار. الا أنني وقبل الدخول على الدكتور مصطفى محمود أردت أن أستزيد من المعرفة عنه، فقد شاهدت عند عقد السبعينيات برنامجه التلفزيوني الشهير "العلم والايمان" والذي قدم خلاله مئات الحلقات التي حكت بطريقة شيقة وبديعة العلاقة بين العلم الحديث وما جاء به القرآن الكريم من آيات معجزات تكشف سر الكون وبديع الخلق وعظمة الخالق في سائر مخلوقاته. كان ما يقدمه الدكتور "مصطفى محمود" فتحا ربانيا قبل أن يكون فتحا علميا

المهم وجدت صديقي الكريم الذي تشرفت بمعرفته وأنست بحبه وتواضعه ونبله منذ زمن، وكان من ذلك الجيل العملاق الذي رافق الدكتور"مصطفى" خلال عمله في مؤسسة "روزا اليوسف" العريقة طوال عقدي الخمسينيات والستينيات وحتى مطلع الثمانينيات. بادرته بالسؤال رغم معرفتي بمدى الاختلاف السياسي بينه وبين الرجل الذي كان حديث الناس في ذلك الزمن.

صديقي، ماذا تقول عن "مصطفى محمود" مسيرته وتاريخه وابداعاته؟ بعد فترة صمت لم تطل، قال "الحديث يطول، وعلينا الآن أن نستعد لصلاة الظهر، فلنجدد الوضوء ونصلي مع الخاشعين العابدين". نظرت اليه معقبا: المصلين الخاشعين العابدين؟! لماذا لم تقل: نصلي مع المصلين وكفى؟.

رد على سؤالي وبدون تردد: "عندما تدخل مسجد مصطفى محمود، سوف تتلبسك حالة الخشوع هذه التي قصدت وصفها، حالة لا تحسها الا في مسجد سيدنا الحسين ومسجد السيدة زينب ومسجد السيدة نفيسة وباقي مساجد أحفاد رسول الله، الذي أكرم الله بلادنا بضيافتهم". لكن سرعان ما تدارك القول: لا ليسوا ضيوفا، بل هم أهل البيت وأصحاب البيت، فقد أنعم الله على مصر منذ زمن، فهي الموصوفة لكل من يحط بها الرحال أو المقام أو دخولها بأنهم ان شاء الله آمنين. قيلت لبني يعقوب وقبله الخليل ابراهيم ومن بعده أبناءه وأحفاده عليهم السلام أجمعين". 

أدينا الصلاة في وقتها، وتصافح الجمع بعد أداء الفريضة، وجلست أستمع للصديق الكريم وهو يحكي عن صاحب المسجد الذي بناه من عائد ما كتب من عشرات الكتب والكثير من التبرعات التي زادت عن كل حد، ثقةً في "مصطفى محمود" ومحبةً في شخصه. فكان أن بدأ أول أعمال الخير بافتتاح عيادة لمعالجة الفقراء من عموم الناس، سرعان ما تحولت الى مستشفى كبيرة تعددت فروعها وتكاثفت أقسامها العلاجية. هذا لأمراض القلب وذلك للباطنة وذاك للنساء والأطفال. وهكذا.. ثم سكت صديقي فجأة، وقال: مصطفى محمود، هذا المتصوف الزاهد، أعطى لنا المعنى الحقيقي للتصوف، فهو ليس دروشة وقول ماهو مفهوم وغير مفهوم من الكلام والأذكار والتسبيح، انه ببساطة خدمة الناس كل الناس، وخصوصا الفقراء منهم والمساكين وأصحاب الحاجة. لقد نجح في غرس هذا المعنى الجميل عند المئات من الأطباء الشباب، بل والأخصائيين الكبار منهم، فجميعهم يعمل متطوعا بلا أجر، ويرى في عمله شرف لا يدانيه أو يطاوله أي شرف.

بعد أن سمعت من صديقي هذا المعنى الذي ألقاه على مسامعه الدكتور "مصطفى محمود" منذ سنوات، أحسست ساعاتها أن التصوف الحقيقي هو تلك المحبة التي تخرج من الفرد لتعم وتفيض على عموم الناس. أليس هذا هو الاسلام الذي تحدث عنه الرسول الكريم في قوله الشريف "قل آمنت ثم استقم". الكلمات الاربع التي سمعها مباشرة الصحابي الكبير من سيدنا الرسول "محمد"، صلى الله عليه وسلم، سيد الخلق أجمعين، وظل يرددها ويلقي بها على مسامع من لم يسمعها مباشرة من الهادي البشير، كأنها رسالة الى العالمين.


أمنت على قول صديقي الكريم في حديثه عن رجل عاش زميلا وصديقا مقربا له لسنوات تجاوزت العقود الثلاثة حتى ترك "مصطفى محمود" العمل اليومي متفرغا لمشروعه الانساني وكتاباته المبهرة وتخريجاته المدهشة. غير أنني رغبت أن أشارك صديقي فيما جاء به من تفسيرات وسلوكيات مأخوذة عن صديقه الكبير، وأحببت أن أعترف أمامه ونحن نجلس في صحن المسجد، بأننا من أهل اليسار أخطأنا في فهم الرجل لعدة سنوات وما يحزنني أن عددا من أصدقائي لا زالوا على نفس النهج. ثم أردفت بالقول ، لقد قرأت أغلب كتب مصطفى محمود مثل: الخروج من التابوت، حوار مع صديقي الملحد، الاسكندر الأكبر، السر الأعظم، الماركسية والاسلام والتوراة، الشفاعة، رحلتي من الشك الى الايمان.. وغيرها الكثير. إلا أنني توقفت بالاحترام عند حادثة ذات دلالة تضاف الى رصيد وتاريخ هذا العبد الزاهد والعالم الكبير. انتبه صديقي إلى ما سوف أقول، وقال لي: ما هي؟ قلت على الفور: هل تذكر ما نشرته مجلة صباح الخير الصادرة عن دار روزاليوسف سلسلة الحلقات التي تقع تحت عنوان "نحو تفسير عصري للقرآن الكريم"؟ رد صديقي عليّ بالقول: أذكر طبعا والمنشورة تقريبا في عام 1968 وأرفقت برسم بديع مع كل حلقة بريشة المبدع الفنان "محمد حجي". أمنت على كلام صديقي، لكني قلت: لقد أعجبت حينها بما كتبه وأبدعه "مصطفى محمود" في هذا العمل الذي صدر بعد ذلك في كتاب طبعت منه عشرات الطبعات، وأعتبره بجانب كتابه "رحلتي من الشك الى الايمان" أهم ما كتب. نظر إليّ صديقي منتظرا الجديد.. قلت له: هذا الكتاب بجانب اعجابي الشديد به الا أنه ارتبط بذاكرتي بدرس عن تواضع العلماء، ثم معنى أو قل تفسير لا يغيب عن ذهني طوال تلك السنين. أما الدرس فهو اقتناع بل ربما أتجاوز وأقول : انصياع الدكتور "مصطفى محمود" لملاحظات الدكتورة "عائشة عبد الرحمن"، بنت الشاطئ، تلك الملاحظات النقدية والفقهية التي أوردتها على ما كتبه صديقك الكبير ، وأولها تغييره لعنوان الكتاب من "نحو تفسير عصري للقرآن الكريم" الى "نحو فهم عصري للقرآن الكريم". لقد ذكرت حينها الدكتورة أن وصف الكتاب بالتفسير العصري للقرآن هو أمر كبير، فما كتبه "مصطفى محمود" وهو غير الدارس للفقه والشريعة والعقيدة هو وصف من رجل في غير اختصاص ما كتبه، لذا فهي اجتهادات تعوزها الأسانيد الشرعية والاثباتات الفقهية. يومها تقبل الرجل هذه الملاحظات شاكرا ومصححا. حينها قال صديقي: سمعت عن هذه الواقعة من قبل ولكن ما تقوله بتلك التفاصيل هو الجديد بالنسبة لي، وما أعرفه عن سنوات الشباب والزمالة البعيدة عن "مصطفى" انه كان من الناس الذين لا يتنازلون بسهولة عن رأي أو فكرة يأتي بها أو يكتبها، ثم سكت وقال: تلك هي صفات الراسخون في العلم عندما يدركون أن ما نعرفه لا يساوي شيئا قياسا بما لا نعرفه.. فما نجهله أكثر مما نعرفه. لكنه بادرني بالسؤال: لكن ما هو التفسير الذي لا يغيب عن ذهنك طوال تلك السنين؟ قلت له: تفسيره للتصوف ومستلزماته. لقد وصف التصوف وبكلماته التي عادة ما يمزج فيها اللهجة العامية باللغة العربية الفصحى، فقال الدكتور مصطفى: التصوف هو مشغولات من الذهب والألماس ونفيس المعادن النادرة التي لا يرتديها إلا أكابر الناس، غير أنها لكي نعطيها لمن يستحقها لا بد من عرضها في أشيك وأنظف المحال، حتى يقبل عليها كل قادر وعليم بقيمتها، علينا باختصار أن "ننضف الدكان قبل عرض البضاعة على المشترين".

قلت لصديقي: هل تعلم ما هو هذا الدكان الذي يقصده الدكتور مصطفى محمود؟ قال وبكل ما يملك من اهتمام يضاف اليه كل ملامح النبل والصفاء الانساني الذي حباه به الله: لا أعرف! قلت له: هي النفس البشرية (ومسحت بيدي على صدري، في اشارة الى موضعها)، وقلت له: هنا يا أستاذي. إذا سلمت تلك النفس وتملكتك حالة من السلام الداخلي الإنساني فأنت على الطريق، أو قل على الدرب تسير. يوماً ما قال "مصطفى محمود": إني أخجل من ربي يوم ألقاه بعشرات الكتب التي خطتها يداي، ألقاه "بشوية ورق"! لا بد من عمل أقدمه للناس لكي تقبل شفاعة رسول الله "محمد بن عبد الله" فيّ وفي أمثالي ممن يطلق عليهم الناس "مثقفين ومفكرين ونخبة".

نظر صديقي العزيز الكريم الجميل في ساعته وقال: لقد أقترب موعد صلاة العصر، هيا بنا نلحق بالدكتور مصطفى محمود قبل أن يصلي وينام كما اعتاد على ذلك طوال عمره. المسافة ليست ببعيدة فالشقة التي يقطنها هنا بالقرب من مسجده هذا.

ذهبنا بسرعة لكي نلحق بالرجل قبل أن يصلي وينام، ووصلنا الى حيث نريد وطلبنا الإذن من أصحاب البيت، وبعد دقائق كنا في حجرة نوم الرجل، الذي بدا لي ضئيل الجسم وفي حال من الهزال بادية عليه، ولكنه أعطى ظهره لمن يدخل حجرة نومه ، غير مدرك أننا جئنا. غير أنني لاحظت كتاب مفكرنا العملاق "عباس محمود العقاد" والمسمى "فاطمة الزهراء والفاطميون" على السرير الذي ينام عليه مفكرنا الزاهد. نظر إلينا أصحاب البيت بكل أسف قائلين لنا: من الصعب الجلوس مع الدكتور الآن، فقد تناول الدواء وقليل من الطعام، وسوف نقوم بإيقاظه بعد نحو ساعة ليؤدي صلاة العصر، فهو لا يغادر هذه الغرفة منذ زمن. انه يعيش مع أصدقائه ومحبيه. ابن عربي والفارض والشاطبي والسهروردي والحلاج ورابعة العدوية، وغيرهم الكثير.

نظرت الى صديقي والألم يعتصرني، والأسف على ضياع هذه الفرصة يقتلني! لكنه نظر اليّ ، مبتسما ومؤنسا: "لا تحزن ولا تقلق ، فالاسبوع القادم لي موعد مع الدكتور ستكون بإذن الله معي ، خاصة أنني أعرف مدى شغفك بقراءة سيرة أهل البيت ، ومنهم فاطمة الزهراء.. وأشار الى كتاب الاستاذ "العقاد".

سلمت أمري لله، مناشدا صديقي الوفاء بوعده. غير أن المشيئة الإلهية لم تمكني من تحقيق هذا الحلم. فقد مات صديقي بأزمة قلبية وهو في سيارته وبرفقة سائقه اثر مجيئه من الإسكندرية وبعد محاضرة ألقاها في مكتبتها العريقة عن "الصحافة الاقتصادية في عصر المعلوماتية"، فقد كان رحمه الله أول من كتب عن الاقتصاد ولغة الأرقام في الصحافة العربية. مات النبيل "محمود المراغي" وبعدها بسنوات لحق به العابد الزاهد "مصطفى محمود"، رحمهما الله. فقد كانا مع غيرهما من علامات الزمن الجميل، وها نحن نتلمس الخطى لعلنا على الدرب سائرون، مطمئنون واصلون، وبرحمته نسكن حيث الشفاعة التي كان يطمع فيها كل من جعل قلبه كعبةً للحب والنقاء، وصدقه عمل نحسبه عند الله شفيعاً لنا يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى ربه بقلبٍ سليم.

الأحد، 7 أبريل 2013

الجزء الثاني: حديث الروح وخلجات النفس




 بعد أن خرج الصحابي الكبير من بيت صاحبه، الصحابي الجليل، أخذ يفكر فيما سمعه من هذا المؤمن البسيط، وكم هو في منزلة بشر بها النبي الكريم، يغبطه عليها كبار الصحابة وأعاظم الرجال في مدرسة النبوة، مدرسة "محمد بن عبد الله" عليه أفضل الصلوات والسلام، لقد عرف منه سر المغفرة وأسباب سكنه الجنة بإذن الله، أن تنام كل يوم والقلب فارغ من الكراهية ، ناضب من الحقد ، خال من المكيدة ، وفي مقابل ذلك عامر بالإيمان مسلح بالتقوى ، مشرق بصحيح السلوك.

ساعتها تذكر هذا الصحابي الكبير وهو يمشي في طرقات مدينة رسول الله ، تلك الاجابة الشافية من الحبيب المصطفى عندما سأله واحد من الجيل الثاني من صاحبته ، "قل لي يا رسول الله في الاسلام قول لا قول بعده". حينها سكت الرسول الكريم بضع ثوان وسرح بروحه النقية الى بعيد ، ونطق بكلمات رأى فيها هذا الصحابي الكبير الحقيقة كاملة ، أليس محمد بن عبد الله هو الذي اختصه الله بجوامع الكلم.

كان الصحابة، الكبير منهم والبسيط والمتواضع والنبيل، يتحلق حول نبي الرحمة المهداة ، الذي قال ردا على السؤال البسيط العميق ( قل آمنت ثم استقم ) .... يا لله ... أربع كلمات لا زيادة فيها أو نقصان. فالإسلام عند سيد الخلق يقوم على قاعدتين راسختين ، أولهما : إشهار الايمان برسالة الاسلام ، توحيدا وتسليما ، وهذا ما يتعلق بالعقيدة ولا واسطة فيها بين العبد وربه. أما الجانب الثاني فهو ما يتعلق بالناس وحسن معاملتهم ، ودون ذلك لا يكتمل الايمان ولا يستقر في القلب. ذلك هو الاسلام ، فهو رسالة واصلة بين السماء والأرض ، سقفها العقائدي هو الايمان ، وقاعدتها الدنيوية هي المعاملة الانسانية الحسنة مع سائر البشر، بصرف النظر عن الدين أو اللون أو المعتقد او المذهب. ألم يبعث "محمد" للعالمين. لقد بعث للناس كافة ولم يبعث لأمته فقط رغم أنه المفاخر بها يوم الدين ، بل هو الهادي والنذير والبشير وصاحب الشفاعة العظمى يوم يبعثون.

أفكار كثيرة ألمت بصاحبنا الكبير بعد أن ترك بيت صاحبنا الجليل، صاحب بشرى رسول الله، بوصفه "يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ". وعند دخوله الى منزله الواقع بالقرب من مسجد رسول الله ، لم يكن الوقت وقت صلاة بل أقرب الى ساعات الضحى ، كان على وضوئه منذ خرج من بيت صاحبه ، لكنه آثر أن يجدد الوضوء كما لو أن عهدا جديدا قطعه مع ربه يقتضي منه أن يناجي به الله وهو في أجمل حال وأتم استعداد وأطيب نفس. أليس الوضوء على الوضوء هو نور على نور.

أقام الصلاة لنفسه ودخل في حالة من الخشوع لم يحسها من قبل الا في تلك الحالات التي يكون فيها قريبا من رسول الله عند الصلاة في مسجده ، حيث يكون واقفا وراء النبي مباشرة ، أو بالقرب منه حين يجلس ضمن صحابته يتحلقون حوله، يستمعون للقول فيتبعونه كله ، فليس في قول المصطفى الا كل ما هو حسن.

وبعد أن فرغ من الصلاة التي ذكر فيها بعد الفاتحة سورة الاخلاص في الركعة الاولى ، وسورة العصر في الركعة الثانية ، عاد ليتدبر فيما قاله بين يدي الله ، فسورة الاخلاص هي التوحيد الخالص ....( قل هو الله أحد ، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ) صدق الله العظيم. أما سورة العصر فهي الجامعة بين الايمان وجميل الأعمال ، وبهما يبعد الله عباده المخلصين عن أي صورة من صور الخسران والخذلان (والعصر، ان الانسان لفي خسر ، الا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) صدق الله العظيم. حينها أحس بالراحة التي لم يعشها منذ زمن ، فقد أدرك بعد أن فرغ من صلاته ومناجاة ربه ، أن كلا السورتين ، الاخلاص والعصر، نزلا عليه ورتلهما بصوت جميل دون تدبير او ترتيب مسبق منه ، هي الفتح الرباني بعينه ولا جدال ، وعندما أدرك ذلك المعنى ووصل الى هذا التفسير ، ابتسم راضيا ومتفائلا بأن الله أعطاه البشرى ، وجعل قلبه فارغا كصاحبه من الحقد والكراهية والضغينة ، نظيفا بالإيمان مترعا بالمحبة ، خالصا لوجه الله وحده ، لا ينازعه في هذا الاخلاص شيء من مباهج الدنيا وابتلاءاتها من وافر المال الفاسد أو السلطان المستبد الزائل ، يكفيه عزة الاسلام ، ويقنعه العزة التي ابتغاها من الله ، عزة لا يريد الا سواها .

نزلت النعمة على هذا الصحابي الكبير ، وأصبح رفيقا في الدرب نفسه الذي سبقه اليه ذلك الصحابي البسيط الجليل ، وبتنا نحن في عصرنا أصحاب الابتلاءات الكبرى من الثروة والسلطة والمال والجاه والأولاد ومباهج الدنيا الفارغ منها والمكتنز. فماذا نحن فاعلون؟ هل نحن قادرون على دخول هذا العالم بكل اختباراته والخوض فيها والخروج منها بسلام؟ كان المسيح عليه السلام دائما ما يردد في حياته على الرغم من قصرها كلمات قليلة ذات بلاغة معجزة ، كثيرا ما كان يقول " اللهم لاتدخلني تجربة ".. البعض يفسرها بأنها مناجاة الى الله بأن يجنبه أكثر من طاقته كي لا يتعثر، فيصبح من النادمين والحزانى التائبين. أو تدفعه الحوادث والخطوب أن يختبر أحد حوارييه من تلاميذه، فيفشل بما كلفه به، فينال عتاب المسيح وغضب الرب، ويكون على هذه الحال من الخاسرين.

تفسيرات كثيرة ، لكن المؤكد أننا على الدرب جميعا سائرون ، غير أن بعضنا بنعمة من الله وفضل ،على الدرب بإذن الله من القادرين السالكين الآمنين المطمئنين المتفائلين ، ومع أهل الجنة وفي ظل عرش الرحمن مسبحين خاشعين متطلعين الى وجهه الكريم حامدين شاكرين.

الخميس، 4 أبريل 2013

الجزء الأول من حديث الروح وخلجات النفس

القاهرة أواخر القرن التاسع عشر

يقول الكثير من علماء الصوفية وشيوخها الأقدمين والمعاصرين ، أمثال " محيي الدين ابن عربي " صاحب الفتوحات المكية ، وجلال الدين الرومي ، وأبوالحسن الشاذلي وابن الفارض والحلاج ورابعة العدوية ومصطفى محمود وعبد الحليم محمود وأحمد الطيب ، وغيرهم وغيرهم مع اختلاف الدرجة والمكانة والعلم وتعدد الأعمار وتفاوت السنون والعقود والقرون ، يقولون " ثمة جنتان ، أحدهما في السماء ، وهي ما وعدنا بها الله سبحانه وتعالى، بعد رحلة من العمل الصالح في الدنيا مشفوعة برحمته التي بها وحدها نكون من أهلها.... ولا نتحدث هنا عن العدل الالهي ، فهو مهما أدينا وفعلنا خيرا لا نقترب من جنته الا برحمته وليس بعدله ......

أما الجنة الثانية ، عند أهل الصوفية وغيرهم من أولياء الله الصالحين ، فهي في الأرض ، وبأيدينا وحدنا صنعها ، وهو ما أسميه " حالة السلام النفسي " بالتخلي عن أغراض الدنيا الزائلة والباهتة والضائعة ، وسبيلي الى ذلك لا يتأتى الا برحلة مع النفس ليست بالصعبة أو حتى الشاقة ، فهي بعد نعمة الهداية التي يخطها الرحمن لعباده ، تغذي بالخير نفسها ، فكلما توغلت في طريق المحبة للآخرين والسلام مع البشر أجمعين يعطيك الله من رحمته ما يعينك على مواصلة الرحلة بالسلام والهداية وراحة البال

ولكي لا يكون حديثنا نظريا ، أو مشفوعا بلغة الوعظ والحكم الجاهزة ، أحاول أن أقدم ما هو عملي وانساني من واقع التجربة الانسانية لي ولغيري ، وأبدأ بواقعة الحبيب المصطفي التي نعرفها جميعا.

ففي جلسة أجتمع فيها كبار الصحابة والعشرات من عمومهم من الذي لا نكاد نعرف الا أسماء القليل منهم ، توقف الرسول الكريم عن الحديث وتطلع الى باب المسجد حيث الصحابة حول الرحمة المهداة يستمعون ويتعلمون ، قائلا لهم " الآن سوف يدخل عليكم رجل يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله " بعد دقائق دخل الرجل الذي قصده الرسول الذى ألمح اليه بعينه الشريفة بأنه هو المقصود.
وكانت المفاجأة أن هذا الصحابي كان من آحاد الناس ، فلم يكن أبوبكر ولا عمر ولا عثمان ولا حتى علي ، كان من عامة الصحابة ومن أبسط الرجال ، حتى أن الكثير من كتب السيرة لا تتوقف كثيرا عند اسمه ، لأن المقصود ليس الشخص ولكن الدرس ..... المهم أن واحدا من كبار الصحابة وأظنه الامام " علي بن طالب " وليس أيضا من المهم من يكون، طلب من هذا الصحابي الجليل أن يصحبه الى منزله طالبا منه ضيافته لثلاثة أيام كما تنص حقوق الضيافة في شرع الاسلام .... وببساطة وافق الرجل على الطلب المقدم من زميله مختلف المكانة والموضع عنه ، بل بدت الفرحة غامرة لتلك الزيارة المرتقبة والتي هبطت عليه من السماء مشفوعة بالمحبة والكرم المنتظر

ذهب هذا الصحابي الكبير مع زميله الجليل ، وفي داخله قرارا وسؤالا ، أما القرار فهو المتابعة الدقيقة لسلوكيات زميله في بيته وبعيدا عن أعين الناس ، أما السؤال ، فهو يأتي في أعقاب المتابعة والفحص والدرس

المهم مرت الأيام الثلاثة ، وبعد الصلاة وجه الضيف السؤال المنتظر لصاحب البيت ، " أخي لقد وصفك الرسول بأنك رجل تحب الله ورسوله ويحبك الله ورسوله ، وأنت على هذا النحو ستكون باذن الله من الموعودين بالجنة. لقد تابعتك في كل تصرفاتك وكل عباداتك ، فتصلي كما نصلي وتصوم كما نصوم وتقوم احيانا الليل واحيانا لا تقوم وأراك تقرأ القرآن دون توسع او ارهاق ، خلاصة الأمر يا أخي أنك " مسلم عادي" فثمة عمل آخر لا نعلمه تقوم به ، وبسببه وصفك نبينا الكريم هذا الوصف وتلك المكانة التي نغبطك عليها جميعا ، وأنت بالطبع تعرف معنى الغبطة ، وهي كما أخبرنا سيد الخلق ، هي الحسد المحمود ، كطلب المال لإنفاقه في سبيل الله كما فعل عثمان رضي الله عنه ، أو صحبة الرسول ،كما نالها سيدنا أبو بكر الصديق أو رجاحة الرأي وقوة المشورة كما أنعم بها الله على " ابن الخطاب "....وهكذا وهكذا.

سكت الرجل ولم يجد جوابا لذلك السؤال المفاجئ على واحد من أمثاله لم يدعي علما ولم يحتل مكانا أو يملك جاها أو مالا .... المهم تحدث وتحدث بعفوية ودون أدني ترتيب في الآراء أو الأفكار ، وفجأة قال " يا أخي أنا أنام كل يوم ولا أذكر طوال هذا العمر وحتى قبل أن ينعم علي الله بنعمة الاسلام أن كرهت أحدا أو حملت حقدا على أحد أو نظرت بعين الحسد على رزق أعطاه الله لصديق أو جار أو قريب ، بل دعوت الله أن ينعم على من أعرفه ومن لا أعرفه بالصحة والسعادة.... باختصار يا أخي " أنام كل يوم على هذا الحال ، واستقبل يومي على هذا الحال ، وأختم ليلي على هذا الحال " …

استمع الصحابي الكبير لزميله المتواضع البسيط النبيل ، وبعد أن فرغ من الحديث الفطري النقي ، توقف عن المتابعة واضعا يده على ركبتي صاحبه ماسحا على رأسه قائلا له كلمة واحدة " انها هي ،انها هي " تلك ما تتفوق به على الآخرين ، وبهذه لك المكانة التي منحك اياها رسول الله ( أنك تنام كل يوم سالما لا يعرف الحقد والكراهية طريقا الى قلبك وتصبح على هذا الحال ، ألم تعرف أن الرسول أختصه الله برحمته وهو طفل ابن ست سنوات ، وأرسل اليه جبريل عليه السلام ، ليشق صدره الكريم ويخرج من قلبه الشريف مضغة سوداء ليطهر قلبه من أمراض البشر ، ويجعل من قلبه سكنا للرحمة المهداة ... أنت يا أخي أعطاك الله بعض.... أقول بعض من نعمة لم يعطها الله الا للقليل من عباده المخلصين.

ترك الصحابي الجليل صديقه النبيل عاقدا العزم على أن يكون على الدرب من السائرين ....أما الصحابي البسيط النبيل فقد وقع في بحر من الدهشة والكثير من الحمد ، وبعدها قام للصلاة .... فهل نحن قادرون على فعل وسلوك الأولين الأكرمين؟